Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
5 juillet 2013 5 05 /07 /juillet /2013 19:23

تحليل التغيرات السياسية – الاجتماعية في الجزائر و علاقتها بظواهر العنف

        أحيى الجزائريون الذكرى الـ51 لاسترجاع الاستقلال, في ظروف داخلية و خارجية, أقل ما يقال عنها أنها دقيقة جدا, إذ تتعالى أصوات هذه الأيام مطالبة بفتح نقاش وطني عميق و جاد, يجيب عن أسئلة جوهرية, تخص قدرة الدولة و المجتمع الجزائري على الصمود في وجه التحديات الداخلية و الإقليمية التي تهدد الجزائر بشكل جدي و غير مسبوق. و ليس مرد هذه الدعوات إلا حالة الشلل التي تعيشها مؤسسات البلاد, و التي زاد تخبطها بعد مرض الرئيس, إضافة إلى حالة الانسحاب الغريبة التي تعيشها النخب الفكرية و الأكاديمية. ثم إن الشعور العام للمواطن الجزائري البسيط, الذي ظل مغيبا عن توجيه مصير بلده هذا, يدفعه ليحس فطريا بأنه على مشارف الدخول في حقبة جديدة من مسار تاريخه, و هو إحساس لا يكون في العادة مطمئنا لنا كجزائريين.

إذا ألقينا نظرة سريعة على أهم المحطات و الأطوار التي عاشتها الجزائر, سواء قبل أو بعد الاستقلال, نلاحظ أن تلك المحطات – على العموم – ظل يجمع بينها عنصر لا يكاد أثره ينجلي على مرحلة تاريخية معينة, حتى يظهر في المرحلة التي تليها كعنصر أساسي يوجه أحداثها, و هو '' أحدث العنف ''. و بقدر ما قد تحدثه هذه العبارة من حذر أو تحفظ في نفس قارئها, إلا أننا و بعد نصف قرن من الاستقلال, صرنا مجبَرين على النظر إلى المسار الطويل الذي تشكلت من خلاله الأمة الجزائرية بنظرة واقعية ناقدة إلى أقصى الحدود. خاصة و واقع الحال و الأحداث, بالنسبة لنا نحن جيل الاستقلال, يؤكد لنا أن مظاهر العنف السياسي و الاجتماعي قد طبعت ذاكرتنا منذ أحداث التسعينات, و لا نزال نرى مخلفاتها هنا و هناك في خضم واقعنا السياسي و الاجتماعي المقلق, مما يدفعنا لنتساءل: لمَ هذا العنف السياسي و الاجتماعي الذي صار و كأنه صفة ثابتة لهذا البلد ؟, ما هي جذوره و خلفياته تاريخيا ؟, لمَ لم نستطع تخطيه حتى الآن ؟, و كيف يمكن البدء في مواجهته و تفادي أخطاره الداهمة ؟.

حلقات العنف و العنف المضاد كإرث نفسي – تاريخي.

إن الدارس لتاريخ الشعب الجزائري, سيلاحظ الكم الهائل من العنف و الاعتداءات التي تعرض لها منذ تاريخه القديم, و لعلنا نجد مؤشرات ذلك عند البحث في سيكولوجية الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض منذ أكثر من ثلاثين قرنا, فيجعلنا نلاحظ أنه ظل يتميز بصفتين أساسيتين و هما: تعصبه للأرض و العِرق ضد العنصر الأجنبي كمشروع هيمنة سياسية أو عسكرية, و مشكلة الخضوع و الالتفاف حول الأنظمة المركزية الشاملة – و هو ما يسميه ابن خلدون بالعصبية –, سواء كانت داخلية, كمشروع الملك ماسينيسا الجريء, الذي حاول قبل أكثر من ألفي سنة توحيد قبائل نوميديا حول نظام سياسي واحد, على أمل قطع الطريق أمام أي احتلال عسكري خارجي مباشر في هذه البلاد. أو أجنبية, و التي تمثلت في موجات الغزو و الاحتلال الكثيرة التي مرت على هذه البلاد.

و في الحالتين, فإن هاذين العاملين, كانا سببا في اضطرابات العنف الناتج عن محاولات السيطرة على الأرض و إخضاع الإنسان التي عرفتها الجزائر, من الحروب البونية إلى الاحتلال الفرنسي, و هو ما نتج عنه, تاريخيا, موجات لا تكاد تنتهي من حلقات العنف و العنف المضاد, و ما صاحبها من اعتداءات و جرائم و تنكيل و إذلال للإنسان المحلي, و التي راحت تتكدس في لا وعي أجيال متلاحقة من الجزائريين, و بالضرورة فإن عمل قرون من الحروب و الاضطرابات السياسية, مع ما صاحبها من عدم الاستقرار اللازم في نمط عيش السكان, قد حرم المجتمعات المحلية من تشكيل البنيات السيكوسوسيولوجية الراسخة نسبيا عبر الزمن, و المتجددة دوريا, عبر تطوير نماذج سياسية و اجتماعية و حضارية متماسكة و متمددة عبر الجغرافيا و الوقت, تلك الاضطرابات التي هدرت الكثير من الطاقة الحيوية و الإبداعية لهذا الشعب, التي صبت بشكلها العام و طيلة قرون من الزمن في رد العدوان الأجنبي, و الكفاح من أجل الاستقلال عن النظم السياسية و الإدارية المركزية المهيمنة.

إن الضابط الفرنسي الذي كتب عام 1947 يقول بأن احتلال فرنسا للجزائر قد كلف الفرنسيين 75 عاما من الحروب, يعطينا صورة واضحة عن حلقات العنف و العنف المضاد الذي أنتجه آخر غزو أجنبي للجزائر, إذ تجب الإشارة إلى أن هذا الغزو كان الأعنف و الأشرس و الأخطر على الإطلاق, بسبب الوسائل الحربية و العلمية التي سخرها من أجل مشروع الإخضاع و المسخ. و دعونا هنا نشير إلى المظالم التي جلبتها فرنسا على الجزائريين طيلة 132 عاما من الاحتلال, و التي شكلت إرثا نفسيا ثقيلا في الضمير الجمعي للمجتمع, بسبب الفضاعات التي ارتبطت بها, من ترهيب و تنكيل و إفقار و إذلال مادي و معنوي مركز, خلق بدوره أنماطا سلوكية تجمع الجزائريين بعضهم ببعض, تتسم هي نفسها – في الغالب – بنوع من الانغلاق و الصراعية و حتى القسوة, التي كانت تشكل نماذج نفسية و سلوكية عامة, لا تقوم بوصفها ميزات راسخة في طبيعة الإنسان الجزائري, بقدر ما تظهر كونها نماذج تتغذى رجعيا من الأوضاع القاسية و الطارئة القائمة أو المفروضة عليه, التي يُضاف لها قلة الوعي السياسي و الثقافي أو حتى انعدامه إلا وسط أقلية نادرة, فيظهر ذلك في إلإرث التربوي للمجتمع خلال السنوات الأخيرة لثورة نوفمبر مثلا, بدءً بالبيت و المدرسة القرآنية, وصولا إلى خلايا النضال و الثورة. و ما الانحرافات التي عرفتها حرب التحرير, كقضايا المؤامرات و الانقلابات و العصيان, أو انزلاقات العنف و الانتقام كما حدث في قضية '' ملّوزة '' 1957 مثلا, أو الفضائع التي كانت تسجل بين الجزائريين من أنصار الثورة من جهة و أنصار النظام الاستعماري ( الحركى ) من جهة أخرى – رغم كل المبررات السياسية و الإيديولوجية التي يمكن أن تبرر بها – إلا أمثلة بسيطة, تؤكد على أن لظاهرة العنف جذور نفسية تاريخية, مرتبطة بالأزمات و الاضطرابات التي عاشها المجتمع الجزائري على امتداد العقود.

دولة الاستقلال... أو عندما تغذي عقد النقص الموروث العنف السياسي المستمر.

لقد ترك الإذلال الممنهج الذي مارسته فرنسا على الأهالي آثارا بارزة في الطريقة التي يفكر بها الإنسان في هذه البلاد, بحيث أن العنف المباشر كالنهب و التهجير و القتل, أو غير المباشر كالحرمان السياسي و الاقتصادي و الثقافي, الذي تم صبه على خمسة أجيال متلاحقة من الجزائريين, قد صاغ بقوة مفاهيمها المجردة تجاه مصطلحات مثل القوة أو الهيمنة أو الجاه, صياغة لم تكن سليمة في الغالب. فبقدر ما غذى هذا التفاعل النفسي الاجتماعي الموروث عقدة النقص تجاه الآخر, الذي ظهر في صورة الأجنبي المستبد المتمكن من كل وسائل الرفاه و القوة و القمع, و التي أدت بدورها إلى ظهور أولى بوادر الكفاح النوفمبري, إلا أن نفس عقدة النقص تلك, قد شكلت في المسار الذي أخذته الثورة الجزائرية إحدى أسوأ عيوبها, و التي ورّثتها مباشرة و دون تأمل أو نقد ذاتي إلى دولة الاستقلال, حيث تجلّت في أشكال العنف المسلح التي ميزت أزمة صائفة 1962, و التي حولت بكل أسف ولادة الدولة الجزائرية الفتية من ولادة طبيعية إلى ولادة قيصرية, جاءتنا بدولة عسكرية منغلقة و عنيفة.

بل إن المفكر الراحل مالك بن نبي, كان في دراسته لمشاكل الشبكات العلائقية في المجتمعات المستقلة حديثا, قد تفطن إلى هذه الظاهرة التي عبر عنها بمصطلح '' الهبوط في الروح الثورية '' و التي وصف بها تلك النزعات الفردية السلبية, التي تخمرت في صمت طيلة سنوات الكفاح, لتنفجر بعد الاستقلال, و التي كان أبطالها ممن يُحسبون في العادة على التيار النضالي أو القومي, الذين وجدوا أنفسهم في اختبار حقيقي, لتجسيد المبادئ الأخلاقية التي تبنوها كأهداف سامية و دافعوا عنها خلال سنوات الكفاح, كبناء مجتمعات تسودها العدالة الاجتماعية و إقرار الديمقراطية, فإذا بهم أول من يلتف حول تلك المبادئ و ينتهج العنف العسكري و السياسي سبيلا للوصول إلى السلطة, أو الاحتفاظ بها, استجابة لنزعات فردية دفينة, حجبت تفكيرهم النقدي بشكل كامل, فيلخص إذن بن نبي تصوره بالقول أن كل علاقة قاسية بين الأفراد, تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن تحطم أعمالهم الجماعية. و يبدو أن هذا كان مصير العمل الثوري الجزائري للأسف الشديد !.

و المواطن الجزائري في هذا الصدد, يحتفظ في ذاكرته بأمثلة قادة ثوريين, جعلوا من موضوع الشرعية الثورية حلبة صراع عنيف بين بعضهم البعض, تماما كما يتشاجر الصبية الصغار حول دمية كانوا قد وحدوا جهودهم من قبل لشرائها أو الحصول عليها, بحيث يكون دافع الصراع هو الفكرة و مبرراتها التي تتشكل في ذهن كل واحد منهم عن الدمية, بوصفها شيئا خاصا به, عندما يستسلم لإغراء التملك عليها, أكثر من محاولة رؤية حقيقتها في واقعه الجماعي, و هو انعكاس مباشر لمشكلة التمركز حول الذات التي ظل يعيشها الجيل الثوري. بل إننا نلاحظ أن الصراعات التي نشبت بين قادة الدولة و امتدت إلى فئات مختلفة من المجتمع بعد الاستقلال, قد كشفت لنا أنه لم يتم الترفع حتى عن أساليب المواجهة و القمع التي خلفتها دولة الاحتلال وراءها, بل استخدمها الجزائريون – بكل أسف – ضد بعضهم البعض ( كما حدث في حلقة العنف و العنف المضاد التي عشناها سنوات التسعينيات ), بغض النظر عن الحجج و المبررات. و هو ما وضع المبادئ الأخلاقية لثورة نوفمبر نفسها على المحك في الوعي الجمعي, وصل بشباب هذه الأيام, المُحبط تماما من المشروع الوطني, إلى التشكيك في جدوى طرد فرنسا من الجزائر !. فبهذا الهبوط في الروح الثوري و الانحدار إلى ثقافة العنف السياسي, تم بالكاد قتل الجانب المقدس من فكرة الثورة نفسها من طرف الكثير من أبنائها, و تم رهن استمراريتها في مشروع بناء دولة الحرية المنشودة, و إننا لنعجب اليوم حينما نرى وجوها ثورية أو تاريخية, تلقي بكل اللوم على جيل الاستقلال, محملة إياه كامل المسئولية في التفريط في قيم أول نوفمبر ؟ !.

إنَّ تفحصنا للمسار الذي انتهجه النظام الحاكم بعد الاستقلال, و إلى جانب ظاهرة الانقلابات و صراعات الأجنحة التي ظلت – و لا تزال – تهزه بشكل دوري, مُلقية بحممها على الحياة السياسية و الاجتماعية في البلد, نجده قد أعاد إنتاج نماذج الحرمان و الإقصاء السياسي, الاقتصادي و الثقافي, التي كرسها الاحتلال الفرنسي نفسه, و هو ما يؤشر فعلا على وجود عقدة تعلق الضعيف المضطهَد بأساليب و سلوكيات القوي المضطهِد, التي أوجدت أشكالا متجددة من الانغلاق و القمع, تبررها حاجات داخلية دفينة. و لِظاهرة التشبث المرضي بالسلطة ( غنيمة الاستقلال الكبرى ), التي ميزت الجيل الذي عاش أو شهد حرب التحرير, و الطرق العنيفة التي ظل ينتهجها للاحتفاظ بها, تفسير نفسي و اجتماعي يصب في نفس سياق ما ذكرناه حتى الآن. و للأسف فإننا لم نستطع إلى اليوم تخطي هذه المرحلة بالسلاسة المطلوبة, بسبب إصرار الجيل السابق, ليس فقط على الاستمرار في الوصاية على الأجيال الفتية باسم شرعيته الثورية, بل و الاستمرار في الحكم بأسلوب صار يمثل – قياسا إلى معايير تسيير الدول في هذا العصر – شكلا شاذا و خطيرا من أشكال الحكم.

التنفيس الفوضوي و البناء المُعطل.

من المثير أن نلاحظ أنه و في كل مرة كانت تصل فيها مؤسسات الدولة أو المجتمع إلى أفق مسدود سياسيا, إقتصاديا أو اجتماعيا, إلا و يكون الحل هو الانحدار إلى سياسة الاستفزاز التي تنتج العنف السياسي و الأمني, سواء بشكل جزئي يمس مناطق محددة من الوطن, كما حدث في أزمات 1963, 1967, 1986, 2001, 2011. أو يكون لذلك العنف ارتدادات عامة و عميقة على كامل القطر, كانقلاب 1965 أو أحداث 1988 و ما تلى الانسداد السياسي لعام 1992.

و ليس مرد هذا إلا فشل دولة الاستقلال حتى الآن, في الخروج بمفهوم الدولة من منطق الأشخاص و العُصب, إلى منطق المؤسسات الدستورية القوية, و الممارسات السياسية السليمة الراسخة في الفكر الجمعي للنخب و المجتمع, الثابتة و المستمرة على الأرض و الواقع. فكل ما حصلنا عليه – للأسف – هو شبه مؤسسات تركزت فيها سلطات مركزية هائلة و '' مُغرية '', ظلت تسيطر عليها نخب متعددة, قائمة على منطق العلاقات الشخصية و الولاء و القرابة و الجهوية و المصالح المشتركة, تسير على مبدأ الضبابية و توازن القوى و النفوذ بين بعضها البعض, ما يؤشر على أن الانحراف الأول الذي وقع صائفة 1962 بسبب الهبوط في الروح الثوري و العداوات العالقة منذ سنوات الكفاح و حمى السلطة, و كل ما نتج عنه من اضطرابات سياسية, اجتماعية و أمنية عشناها طويلا, قد وصل في تطوره إلى ما نحن عليه اليوم من انسداد و ضغط و تخبط على جميع الأصعدة. و هذه الحقيقة تمثل حالة الدول و المجتمعات المكبوتة, التي تفتقر أساسا إلى أجهزة ضبط و تنظيم السلطات و قنوات التعبير و الاتصال و الحوار و الإقناع الملائمة, سواء بين النخب الحاكمة نفسها أو بينها و بين عامة الشعب, فإن أضفنا إليها ميزة الإنسان الجزائري التي ذكرناها في صدر هذا المقال ( افتقاده لمفهوم جماعي مقبول للسلطة - L’autorité et le pouvoir central , و العصبية التي تتجلى اليوم أساسا في ظاهرة الجهوية ), فإن الصورة تكتمل إلى حد ما.

و بما أن مفهوم الدولة الحالية قائم على تلك الأسس الشاذة التي ذكرناها, فإنه من الصعب جدا إيجاد طريقة مناسبة لتسيير و تنفيس ضغط النخب و المجتمع عندما يواجهان أي شكل من المطبات أو الإحباط أو التهديدات الداخلية و الخارجية, مع ضمان إتمام تشييد دولة الاستقلا بالهدوء و السلاسة المطلوبين.... إلا بطرق عنيفة, كحل نهائي لمشاكل الانسداد السياسي و الاجتماعي, إذ يتم غالبا هدم ما تم بناءه. أو لنقل إن هذا الانحدار إلى حلقات العنف, التي نعيشها كجزائريين دوريا كلما انغلقت آفاقنا, صار أشبه بحالة بناء فوضوي غير مكتمل عمره 50 سنة, في كل مرة يتم رفع أجزاء منه إلا و يضطر أصحابه إلى إعادة هدمه كلية أو هدم أجزاء منه لسببين هما: 1- أنه يُرفع في كل مرة دون الالتزام بالقوانين المتعارف عليها في الهندسة و البناء. و 2- اختلاف وجهات النظر بين أصحابه حول تصميمه و شكله و توزيع الغرف فيه.....الخ, فيتصارعون فيما بينهم, فيقوم تبعا لذلك كل فرد منهم و بشكل دوري بهدم الجزء الذي لا ينال رضاه و يعيد بناءه بحسب مزاجه و مصالحه الذاتية, دون أدنى اعتبار لمصلحة الجماعة في ذلك, أو في أسوأ الحالات فهم ينتهون إلى تصفية البناء كله من أجل البدء من الصفر. و النتيجة المنطقية لكل هذا هي تعطل في البناء مع ما يرافقه من تبديد للطاقات المادية و المعنوية لأصحاب المشروع, و عيوب تقنية دائمة تتكدس مع الزمن في البناية, قد تشكل تهديدا دائما على حياة السكان مستقبلا.

لعلنا نفهم الآن, و بعد نصف قرن من الاستقلال, و مع تفاقم مشاكلنا داخليا و إقليميا, أننا فعلا معرضون إلى الدخول في حلقة عنف و عنف مضاد جديدة, إذا لم تستطع دوائر صناعة القرار أن تحد على الأقل  من تمركزها القاتل حول ذاتها, و البدء في مواجهة الذات و الآخر للاعتراف بمكامن العيوب و النقص و بحث الحلول المناسبة, إن لم تكن شجاعة بما يكفي لتعترف بأخطائها الكثيرة. فجيل الشرعية الثورية ماض اليوم – بحكم قوانين الطبيعة – إلى الاندثار, و وحدها الأجيال اللاحقة ستتحمل كوارث إرثه الثقيل, و هنا تبرز فرصة النخب الفكرية و السياسية الشابة لمواجهة هذا الوضع بإبداعها و أفكارها و مبادراتها مع كل ما تخلقه من تفاعلات و حركية. و يجب أن نذكر أنفسنا ختاما بالحكمة التي تقول بأنه ليس عيبا أبدا أن نعود إلى بداية الطريق, إذا علمنا أن انطلاقتنا كانت سيئة أو أن اتجاهنا كان خاطئا. بدل الاستمرار في الترنح بالجزائر الحالية تحت شعارها غير الرسمي: '' من الشغب و إلى الشغب ''.

 علاوه أمير فنور.

Partager cet article
Repost0
15 décembre 2012 6 15 /12 /décembre /2012 15:09

Youtube

 

موقع يوتيوب كظاهرة ثقافية و إعلامية محركة للمجتمع المعاصر.

          في أيامنا هذه, لم يعد ممكنا التشكيك, في الدور الخطير الذي باتت تلعبه كبرى مواقع التواصل الاجتماعي, و التي صارت توصف بالدويلات الافتراضية, التي تضم ملايين المنتسبين إليها, و الذين يتبادلون اليوم قدرا مذهلا من المعلومات و الأخبار و الأفكار و التصورات, في مدى بات يُحسب على أساس الدقائق و الثواني, مما دفع بخبراء الإعلام إلى التلويح ببروز شكل جديد من عمليات صياغة فكر و اتجاهات أفراد المجتمع, عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي, يختلف في أسسه التطبيقية عما كان عليه الأمر قبل عقود قليلة, و لنأخذ في هذه العجالة موقع يوتيوب Youtube   كمثال... فماذا عنه ؟.

ما يعرفه عامة الناس عن هذا الموقع هو أنه مخصص لتحميل و مشاهدة الفيديوهات بشكل مرن و سهل لم يتوفر قبل عام 2005, عندما أسسه كل من شاد هارلي, جواد كريم و ستيفن شان, كمجرد نسخة تجريبية بسيطة, و كانت انطلاقته الفعلية كموقع '' كاسح '' سنة 2006, بعد قرار العملاق Google   شراءه من مخترعيه, بصفقة قيل أنها بلغت 1.65 مليار دولار أمريكي.

يكفي الإطلاع على الإحصائيات المختلفة التي يتم نشرها عن هذا الموقع دوريا, حتى ندرك حجم القوة التأثيرية التي بات يوتيوب يمثلها في حياتنا اليومية. فمثلا تقول إحصائية أن 60 ساعة من البث قد تم تحميلها في الدقيقة على يوتيوب شهر جانفي / ياناير 2012, و قد قفز هذا الرقم إلى 74 ساعة في الدقيقة شهر مايو 2012, و أنه في أكتوبر الماضي ( 2012 ) وصل المعدل الشهري لمشاهدة الفيديوهات على الموقع إلى 4 مليار ساعة, و هذه أرقام تدل على تحول هذا الموقع فعليا إلى أداة إتصالية و إعلامية تلعب دورا واضحا, ليس فقط في تكريس ثقافة الترفيه ( Intertainment culture   ) التي صارت ظاهرة عالمية, مع كل ما تحمله من قيم تربوية و أخلاقية مثيرة للجدل, خاصة إذا علمنا أن 9 من أصل 10 فيديوهات تحتل أعلى نسبة مشاهدة على الموقع هي في العادة كليبات موسيقية, لكن الأمر امتد إلى أن يصبح يوتيوب منبرا إعلاميا قائما بذاته, مكن من بروز أفراد و جماعات صارت تُسمع صوتها و تعبر عن أفكارها بكل قوة و بدون أية قيود, مع ظهور ثقافة المراسلين غير الرسميين ( أو ما اصطلح على تسميته بالمواطن الصحفي ), الذين أخذوا يزودون العالم بأخبار كل الأحداث التي تعرفها بلدانهم و بكل التفاصيل, مما سمح بتحويل هذا الموقع إلى ما يشبه حاضنة تفرخ كل أنواع الآراء و الاتجاهات و القناعات, و كلها معطيات باتت تؤثر, لا محالة, في الأحداث الداخلية و الخارجية لكل دولة تقريبا.

إذا ما أردنا فهم الجذور النظرية لقوة يوتيوب في صياغة آراء و توجهات جماهير اليوم, فعلينا أن نعود إلى مفهوم "القوالب النمطية" الذي سكه الصحفي الأمريكي W. Lippman   عام 1922, و الذي كان يفترض أن وسائل الإعلام و الاتصال في المجتمعات الديمقراطية التي لا يوجد بها قمع فكري صريح, يفترض أن تكون مجموعة '' قوالب '' يتم ملؤها بعقول عامة الناس, الذين يستهلكون المادة الإعلامية و يتفاعلون معها, بحيث يصبح تأثير المحتوى الإعلامي نفسه مساهما إلى حد كبير في صياغة فكر و رأي تلك الجماهير, وفق النمط المحدد الذي تتشكل به تلك القوالب نفسها, أو يُراد تشكيلها به ( أي علاقة التأثير و التأثر بين وسائل الإعلام و المجتمع ), و هو ما مكن لأستاذ علم نفس الاجتماع السياسي F.L Alportعام 1937 من القول بأن مصطلح الرأي العام يكتسب معناه الحقيقي حين يكون متعلقا " بموقف" يتخذه أفراد كثيرون يعبرون – أو يمكن دعوتهم للتعبير – عن شخص أو فكرة أو موضوع ذو أهمية واسعة النطاق, تتعلق بتلك الجماعة من الأفراد, إما بالقبول أو بالرفض.

 و يمكننا بالتالي ملاحظة الإمكانيات التي يتيحها يوتيوب لرواده اليوم, ليس فقط من أجل الإطلاع على المادة الإعلامية المتوفرة فيه ( بكل أنواعها و رسائلها ), بل و المساهمة في إثراء محتويات الموقع بما يثير اهتمام المنخرطين, و يتيح لهم و لغيرهم فرصة التعبير عن مواقفهم و آرائهم و اتجاهاتهم تجاه المواضيع محل الاهتمام, و هو أمر لا يساعد فقط هذه الجماهير على تشكيل اتجاهاتها و آرائها حول تلك الموضوعات, بل يعطي كذلك مؤشرا على الارتقاء بالرأي العام للجماهير إلى ما سماه الباحث Daniel Yankelovich بـ"القرار العام", الذي يكشف – حسبه – عن تفكير و تبصر أكثر, و مزيد من المشاركة في النقاشات و الجدل, يفوق في مستواه تلك المواقف الظرفية العابرة, التي يتخذها المجتمع في العادة, بناء على ردود فعل تستند إلى انفعالات وقتية, تزول مع مرور الوقت و يتغير معها موقفه تجاه المسائل المرتبطة بها.

فاتجاه اليوتيوب من هذه الزاوية, هو خدمة الموقف العام للجماهير, أكثر من خدمة الرأي العام, فهو يعمق من قناعات و اتجاهات الأفراد, و عمليا, يزيد من فرص تحرك و تجند الجماهير المتفاعلة حول المواضيع ذات الأهمية القصوى, من أجل خطوات أكثر واقعية و عملية من مجرد إبداء آراء عابرة, و هذا ما حدث مثلا فيما يسمى بالربيع العربي, حين لعب اليوتيوب دورا محوريا في تحريك شوارع و منظمات و حكومات في العالم, بما كان ينقله – و لا يزال ينقله عن الحرب السورية مثلا – من صور و أحداث و حقائق, ضلت تشكل مادة إعلامية دسمة, تتناولها كبرى الشبكات الإخبارية المؤثرة في صناعة الرأي العام في العالم, و لربما يتكشف لنا أحد الأهداف ذات الطبيعة الإخبارية و الإعلامية ليوتيوب في هذه النقطة بالذات, و هو تحويله إلى مصدر خام جد ثري لمختلف أنواع الأخبار, التي يشارك الشارع و المجتمع بذاته في صنعها أو نقلها ( خاصة في البؤر المتوترة ), لتقوم كبرى شبكات الأخبار بصقلها و تسويقها بأشكال مُنمطة, تضمن لها في النهاية أكبر الأرباح مقابل أقل التكاليف, دون الحديث عن مختلف الإسقاطات السياسية المنجرة عن تلك المعالجة الإخبارية و الإعلامية ؟.

إن ما يقوم به يوتيوب حاليا هو أشبه بإعادة صياغة السلوكيات الاجتماعية – الإعلامية للمجتمع البشري, لكن وفق أسس عالمية, خاصة بعد الانفجار التكنلوحي و الاتصالي الذي جاء به عصر العولمة, و الذي حول كوكبنا إلى قرية كونية موحدة تحت سلطة وسائل الإعلام – حسب مفهوم عالم الاجتماع و الإعلام M. McLuhan – لكن بالاعتماد على قوالب نمطية جديدة, تتخطى التصورات التقليدية حول مفاهيم الدولة الوطنية أو الحدود القومية أو الديمقراطيات المحلية...الخ – و هو ما لا يزال غائبا عن وعي نخبنا السياسية و الفكرية للأسف – فلا عجب أن الشخصيات و الشركات و الأحزاب و المنظمات التي فهمت قوته الحقيقية, تسارع اليوم لتأسيس قنواتها اليوتيوبية الخاصة بها, من أجل الترويج لنفسها و التعبير عن آرائها و نشر أفكارها و كسب المزيد من الاتباع و التفاعل معهم و رص صفوفها.....الخ, بل إن الأفراد العاديين – و هذا هو الجديد – يسيرون على نفس الدرب, و لنا أمثلة لا حصر لها عن آلاف الأشخاص عبر العالم, كانوا مجرد شباب أو مراهقين مغمورين, و عن طريق اليوتيوب, صاروا اليوم شخصيات شهيرة, في بلدانهم أو حول العالم, في ميادين مختلفة, كالرياضة و الغناء و التمثيل و الإبداعات العصرية غير الاعتيادية و ما إليها.

و مهما يكن من أمر, فإن يوتيوب و كغيره من مواقع الإنترنت المهيمنة, مجرد وسيلة, يتحدد نفعها أو ضررها بحسب أهداف و خلفيات و طبيعة من يستخدمها, كأفراد أو جماعات مميزة أو حتى مجتمعات, فهو إما وسيلة دعائية إيجابية لنشر الحقائق أو الترويج للأفكار و الثقافات و البلدان المختلفة, و فضاء رحب للالتقاء و الحوار و تبادل الآراء و المنافع و المبادرات الجيدة و إبراز الكفاءات و المواهب في كل المجالات, و إما وسيلة لنشر الفتن و الأباطيل أو الألاعيب السياسوية و فضاء لكل أشكال التشهير و السب و التجريح و نشر الأفكار المتطرفة أو العنصرية.

علاوة أمير فنور

Partager cet article
Repost0
20 mai 2012 7 20 /05 /mai /2012 15:03

ظاهرة الأنوميا و أزمة المؤسسات و المجتمع في الجزائر.

يذكر بعض من كبار السن في مجتمعنا أنه في سنوات السبعينات و الثمانينات, كان الاعتراف بتعاطي المخدرات   أو الخمور جهرا, يُعد فعلا شائنا يدل على أن صاحبه قد بلغ درجة من الوقاحة و الحماقة التي يستحق عليها العقاب الشديد و ليس فقط الانتقاد أو التنديد. كما يذكر هؤلاء من الجيل السابق أنه يوم كانت الجرائد تَكتب عن حادثة إقدام شاب في مقتبل العمر على شنق نفسه, فإن الدنيا كانت تقوم و لا تقعد بسبب " هول " هذه الحادثة التي كانت تهز المجتمع هزا, كما كان المرء وقتئذ يستحي و يخاف من القول بأنه قدّم رشوة لفلان أو طلبها منه مقابل خدمة ما, بل يُبقي الأمر سرا بينه و بين نفسه اتقاءً لعقاب المجتمع قبل عقاب الدولة, أما قصة هؤلاء الذين ينهبون المال العام نهارا جهارا بدون رقيب و لا حسيب.... فهذا لم يكن ليتصوره أحد في تلك الفترة.

و من المذهل اليوم و بعد مرور عقد التسعينات المليء بالفوضى الأمنية و السياسية و المؤسساتية, أن نجد أنفسنا أمام واقع معكوس تماما يتخبط فيه المجتمع الجزائري, بلغ درجة حيث لم يعد فيها مكمن هذا الذهول الذي ينتاب المراقبين و الدارسين للوضع الجزائري, في الآفات التي تنخرنا ليل نهار, بسبب أنها صارت ما يُشبه الواقع الطبيعي أو العادي الذي نعيشه و نتعايش معه يوميا و كأنه قدر محتوم ( و هذا نفسه يُعد مؤشرا مُقلقا ), بل سبب الذهول يكمن في " الشذوذ " الذي ما فتئ يتولّد عن تلك الآفات نفسها, ليزيد في عجز المجتمع و مؤسساته ( أو الواجهات التي يُفترض أنها تمثله ) في التعامل معها. أي أن مختلف الآفات التي جاءت كنتيجة مباشرة للأزمة متعددة الأوجه التي عصفت بالبلد سنوات التسعينات, صارت هي نفسها تولّد ظواهر أكثر غرابة و تعقيدا, كعمليات السطو التي يقترفها أطفال و مراهقون على الأشخاص أمام مرأى الجميع و من دون أدنى رد فعل من طرف المواطنين, و هذا إن دل على شيء, فهو يدل على أن المجتمع الجزائري قد بلغ درجة من العجز و التخبط داخل هذه الدوامة الكبرى لم يصلها في أحلك فتراته التاريخية, و هذه الدوامة هي ما يُسمى في الأوساط الأكاديمية بـ" الأنوميا " أو أزمة " اللامعيارية ". فما هي هذه الآفة و كيف تنشأ و ما هي أسبابها و ما واقعها في الجزائر؟.

يرجع أصل كلمة أنوميا إلى الكلمة الإغريقية Anomie   التي تعني " انعدام القانون " أو " انعدام الثقة " أو " حالة البلبلة و الشك " التي يسببها غياب سلطة القانون. أما في العصر الحديث فقد كان رائد المدرسة الاجتماعية الغربية " إميل دوركايم E.Durkheim   " أول من وضع هذا المصطلح   عام 1893 في كتابه " تقسيم العمل " ثم طوره من بعده " روبرت ميرتن R.Merton   " سنة 1957 في سياق النظريات المفسرة للظواهر الاجرامية. فمصطلح الأنوميا الحديث يعني بشكل عام " انعدام المعايير ", و هو يرتبط مباشرة بالنظم المعيارية التي تنبني عليها مختلف مظاهر التنظيم الاجتماعي, التي تسير مجتمعا بشريا معينا, و التي تتجسد في مختلف المؤسسات أو الهيئات التي ترتبط مباشرة بذلك المجتمع الذي توجد فيه و من خلاله, عن طريق نوع من العقد الاجتماعي القائم على أساس الثقة و التقبل و التفويض الذي تحصل عليه تلك المؤسسات, من أجل تسيير شبكة العلاقات و المصالح المتشعبة داخل المجتمع أو الدولة في إطار النظام و القانون, و الذي بدوره يكفل للجميع حقوقهم و يوزع عليهم واجباتهم بشكل عادل و منصف يضمن لهم تحقيق أهدافهم في الحياة, بحسب وضع و مكانة و مؤهلات كل فرد, إذ يكون ذلك هو المبتغى النهائي لتلك المنظومة المعيارية.

فأي خلل قد يصيب هذه المنظومة المشكلة للمعايير التي تنظم و تسير المجتمع, يؤدي مباشرة إلى اختلال البناء الاجتماعي ككل و من ثم ظهور الأنوميا, و هذا بالضبط ما يعبر عنه الكاتب " عايد الوريكات " شارحا وجهة نظر دوركايم بهذا الخصوص, عندما يقول بأن ظاهرة الأنوميا أو اللامعيارية هي " النتيجة الحتمية لفشل المعايير الاجتماعية و الظروف المجتمعية في ضبط نشاط أعضاء المجتمع ", فتلك الظروف المجتمعية تعجز عن قيادة الأفراد إلى مواقعهم المناسبة في المجتمع, فتنشأ عنها صعوبات التكيف الاجتماعي, و هذا بدوره يؤدي إلى الإحباط و عدم الرضا عن المنظومة الاجتماعية, و من ثم يكون فاتحة لتطور تدريجي – تراكمي لمفاهيم جديدة ذات مضامين " صراعية أو ثأرية ", تؤدي في النهاية إلى انتشار الفوضى من خلال سعي بل تسابق الأفراد إلى تحقيق أهدافهم المشروعة بطرق غير مشروعة – بما أن مؤسسات المجتمع تكون عاجزة عن تنظيم أدوارهم – و هو ما يؤدي إلى الانحراف و التمرد على القانون, الذي يأخذ عادة طابع التبرير لتلك السلوكيات المنحرفة من وجهات نظر شخصية ذاتية, بعيدة عن النضج الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي للفرد الأنومي, الذي يُعبر في هذا النموذج النظري عن شذوذ فكري و سلوكي, يتكون و يظهر بسبب خلل في البناء الاجتماعي أو الثقافي المهيمن و ليس بسبب الفرد في حد ذاته.

و يُجمع علماء الاجتماع و الإجرام على أن ظاهرة الأنوميا أو أزمة غياب المعايير, تنشأ و تتطور داخل أي مجتمع في عدة حالات ترتبط بالتطور السياسي و الاجتماعي و الثقافي لذلك المجتمع, و في العادة تكون بسبب أحداث طارئة و كبرى أو تغيرات سريعة و جذرية يتعرض لها المجتمع, إذ يظهر ذلك جليا في حالات الحروب الأهلية التي تنهار فيها سلطة الدولة المركزية, أو الأزمات الاقتصادية كحالات الكساد الكبير أو المراحل الانتقالية السريعة و غير المضبوطة كالانتقال من نظم سياسية و اقتصادية معينة إلى أخرى جديدة, بحيث تخلق كل هذه الحالات السابقة حالة من الفوضى و عدم الثقة بل و حتى الاعتراض و المقاومة داخل المجتمع, الذي يجد نفسه في هذه الوضعية الصراعية عاجزا عن التبني أو الإدماج الجماعي السلس للمفاهيم و التصورات الجديدة التي تنشأ عن تلك الحالات, بسبب البلبلة و الشك الذي ينتج عنها, و عدم ملاءمتها لتصوراته الثابتة نسبيا حول ما يجب أن يكون عليه.

و الكثير من الأمثلة التاريخية تبين بشكل جلي الخطر الذي تمثله مثل هذه التغيرات الدراماتيكية على استقرار المجتمع, فالكساد الاقتصادي العظيم الذي ضرب الولايات المتحدة عام 1929 مثلا, نتجت عنه أزمة معايير و غياب لسلطة القانون, تسببت في انتشار موجة رهيبة للجريمة المنظمة, عصفت بالولايات المتحدة قرابة العقدين من الزمن,  و قد كلفت مكافحة المنظمات الإجرامية الأمريكية التي تغوّلت في تلك الفترة من أجل تقليص نفوذها و تحرير المؤسسات الاقتصادية و السياسية منها, ملايين الدولارات و مئات الأرواح و هي لم تنجح في ذلك بشكل كامل.

واقع ظاهرة الأنوميا في الجزائر:

بالعودة إلى الحالة الجزائرية, فنقول أنه لا يمكن فهم الظاهرة الأنومية في الجزائر دون العودة إلى السياق التاريخي – القريب على الأقل – لتطور المجتمع الجزائري, فنشير إلى التراكمات البطيئة التي عاشتها الجزائر منذ الاستقلال, و التي بدأت بالانطلاقة السيئة للجمهورية الفتية ( الانقلاب على حكومة بن يوسف بن خدة المؤقتة ), الذي فتح الباب منذ ذلك الوقت على أشكال الممارسات السياسية غير السوية " المُبررة " بأسباب ربما تبدو في الظاهر سياسية, إلا أن أحد التفسيرات الموضوعية لها يعود بنا مباشرة إلى " طبيعة و تكوين " إنسان العالم الثالث التي لا مفر من إنكارها, و التي أثبتت في أكثر من مثال و في أكثر من دولة عجزه عن التحكم في " شهوة الكرسي ", و يبرز ذلك جليا في الحالة الجزائرية من خلال النمط الذي ميز صراعات قادة جبهة و جيش التحرير الوطني صائفة 1962 حول اقتسام مغانم الاستقلال, و الذي عرف بروز الزمر و التكتلات – إن لم تكن موجودة قبل ذلك – و هو ما انعكس على مسيرة دولة الاستقلال لاحقا.

و بالرغم من أن النظريات المفسرة لأزمة الأنوميا ترجع اسبابها إلى حالة النظام الاجتماعي و ليس إلى الفرد في حد ذاته, إلا أن الفرد النافذ أو المجموعة الصغيرة النافذة عندما يعتديان على المعايير المُتفق عليها, فقد يُمهد ذلك للوضع الذي ستتشكل من خلاله الحالة الأنومية مستقبلا.

لقد كان لإتباع و تعزيز نهج الحزب الواحد و الاشتراكية سنوات السبعينات انعكاسات واضحة على الطريقة التي يفكر بها المجتمع الجزائري عموما, إذ أنها شكلت الأرضية الخصبة لكل الممارسات الشعبوية و البيروقراطية التي ظلت تتأصل شيئا فشيئا في الوعي الجمعي للناس, سواء حكاما أو محكومين, إلى أن جاء انهيار أسعار النفط في الأسواق الدولية أواسط الثمانينات, ليأتي رد فعل المجتمع – ظاهريا – على انهيار الاقتصاد الوطني المُعتمد على المحروقات, عبر أحداث الشرق الجزائري في 1986 و أحداث أكتوبر 1988, و التي مهدت لانفجار الوضع السياسي في جانفي 1991, عندما فشلت عملية الانتقال من النظام و الفلسفة السياسية التي اتبعتها الجزائر منذ استقلالها إلى الفلسفة السياسية التي فرضها الواقع, و التي كانت جديدة على مؤسسات الدولة نفسها قبل أن تكون جديدة على المجتمع, تلك المؤسسات التي أصبحت غير قادرة على جعل الدولة و المجتمع يتأقلمان مع المتطلبات السياسية و الاقتصادية و الثقافية التي ميزت المحيط الدولي ( بعد انهيار المعسكر الشرقي ), بعجز النخب الجزائرية الحاكمة عن استدماج المعايير الجديدة التي فرضتها ضغوط المرحلة, فكان أن انهارت المؤسسات الدستورية في الدولة و انتشر العنف و غابت القوانين, فدخل المجتمع الجزائري مرحلة الفوضى العارمة التي ولدت أزمة ثقة عميقة, جاءت بأزمة الأنوميا كنتيجة حتمية.

و بالرغم من أن عقد التسعينات قد مضى و أن الاستتباب النسبي للأمن أصبح واقعا, إلا أنه لا يمكن أن نجد اليوم مواطنا جزائريا واحدا يمكن أن يجادل في مخلفات سنوات الفوضى التي مر بها البلد, و السبب في ذلك هو أن حالة الفراغ المعياري و القيمي التي ميزت تلك المرحلة, قد سمحت بظهور أشكال و أنواع لا حصر لها من الانحراف الفكري و السلوكي لدى الجزائريين, و يمكن تلمّس هذا الواقع داخل المجتمع الحالي من خلال عدة ظواهر واضحة للعيان, و لشرح واقع الأنوميا الذي يتخبط فيه مجتمعنا و مؤسساته بشكل مبسط ( استنادا إلى النظرية العامة للأنوميا ), نشير إلى ثلاثة أسس عامة تتسبب في انتشاره و تعزيزه بإسقاطها مباشرة على الواقع الجزائري:

أولا: إن الأهداف و الطموحات التي يسعى إليها الفرد الجزائري الحالي و خاصة الفرد الشاب, أصبحت لا تتماش و القدرات و المقومات السياسية, الاجتماعية, الثقافية و الاقتصادية الحالية التي تتوفرعليها الجزائر, و هو ما خلق هوة واضحة بين هذا الفرد الذي رضع من العولمة و تأثر بثوراتها و قيمها, و الواقع الجزائري المُتخلف في الجوانب السالفة الذكر.

ثانيا: إن المعايير الاجتماعية التي كان يُفترض بها أن تحكم مسيرة الأفراد لتحقيق اهدافهم و طموحاتهم وفق قدراتهم و مؤهلاتهم, أصبحت شبه غائبة في المجتمع, و هو ما أفسح المجال لسيطرة منطق الفوضى الناتج عن فقدان الثقة في القوانين المنظمة لسلوك المجتمع و مؤسساته.

ثالثا: إن الوسائل المؤسساتية التي يضعها النظام الاجتماعي الحالي, من أجل تمكين الأفراد من تحقيق طموحاتهم, صارت – على العموم – أكبر خصم للطاقات الخلاقة و البناءة و الكفاءات الحقيقية, ذلك أن هذه المؤسسات ظلت لعقود تعاني من مشاكل البيروقراطية أولا, ثم إن حالة اللامعيارية التي مر بها المجتمع الجزائري قد خلقت منظومة مشوهة, تسير وفق قيم غير سوية, تسمح في العادة للعناصر السلبية أو الانتهازية أو غير الكفئة بالوصول إلى تلك المواقع, و هو ما يؤدي بالمقابل إلى تشكل نوع من البيئة الضاغطة أو المهمِّشة أو العدائية تجاه العناصر الإيجابية, التي تتمتع بقدر من الكفاءة و المستوى الراقي و التناغم مع المتطلبات العصرية, التي يمكن لها إحداث الفرق في بناء الدولة و المجتمع على السواء, و هو ما يُعطينا أحد التفاسير الكثيرة عن الوتيرة البطيئة التي تسير بها البلاد في جوانب التطور السياسي و الاقتصادي و العلمي و الثقافي......الخ     ( إذا ما قورنت مع المقومات التاريخية و الطبيعية و البشرية للجزائر كبلد ), و كذا انتشار الرداءة في تسيير أمور المجتمع مؤسساتيا في جميع المجالات تقريبا.

نلاحظ إذن أن حالة الفوضى و الرداءة و الفكر الصراعي التي تميز مظاهر حياة الإنسان الجزائري اليومية و على جميع الأصعدة تقريبا, تؤشر إلى حالة التشوّه و التفتت التي يعانيها البناء الاجتماعي ككل, فالمنظومة المعيارية أضحت عاجزة بشكل مُقلق عن قيادة الأفراد إلى أماكنهم المناسبة في المجتمع بالطرق السليمة و النزيهة, و هو ما يعزز أكثر فأكثر حالة عدم التوافق و الاغتراب داخل المجتمع و الإحباط, التي تعزز بدورها مجموعة التصورات و القيم التي لا تزال تأخذ مكانها بقوة في الوعي الجمعي للجزائريين في السنوات الأخيرة, و هي قيم ليست سليمة, و لكنها تلقي بثقلها الشديد لتصوغ شكلا محددا من العلاقات الإنسانية داخل المجتمع, يتسم بسلوكيات منحرفة, تسيطر عليها قيم سلبية كقيم استغلال القوة و النفوذ و السلطة للهيمنة, أو الاحتيال على القانون و الغش و ثقافة الرشوة و غيرها, كطرق و أساليب غير مشروعة لتحقيق الأهداف و الطموحات المشروعة لدى مختلف الشرائح.

إن الانتشار المقلق لمظاهر الإجرام و السرقة و الاعتداءات و قطع الطرق و كثرة الاحتجاجات, و ارتفاع نسب الانتحار و انتشار الأمراض العقلية و العصبية, و مظاهر الهجرة غير الشرعية و هروب الأدمغة و الكفاءات نحو الخارج , و أزمة الانحلال الخلقي و الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة المختلفة.....الخ, كلها مظاهر لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى الظروف الاجتماعية فحسب, فهذه الظواهر تتكلم بنفسها عن حالة الضغط و الإحباط الشديد التي يواجهها الفرد الجزائري بسبب أزمة اللامعيارية, و التي جعلته هو الآخر يتخلى عن مجموعة التصورات الأخلاقية و المعايير التي يخضع لها سلوكه, في إطار البناء الاجتماعي العام, لأن هذا الأخير صار هو نفسه – كمار رأينا – المصدر الأول لتغذية الآفات المنتشرة حاليا.

و في المحصلة, لن نبالغ إذا قلنا أننا اليوم مجتمع أنومي بامتياز, و بأن كل مواطن جزائري مهما كانت مكانته أو مستواه هو إنسان أنومي بشكل من الأشكال و بمستوى من المستويات, و أن التحدي الأكبر يكمن في شجاعة الاعتراف بهذا الواقع و عدم التسليم به كقدر محتوم, ليعمل كل فرد ما أمكن بينه و بين نفسه من أجل إصلاح الذات قبل الصراخ بإصلاح المجتمع و مؤسسات الدولة, إذ كم من الأفراد الذين نلتقي بهم و هم يصيحون منادين بإنقاذ الوطن و إصلاح أمور المجتمع, بينما سلوكياتهم اليومية لا تمد بصلة للوطنية أو الوعي الاجتماعي بشيء, رغم وجود بصيص من الأمل في كل الأحوال, خاصة عندما نر مواطنين و شباب و مسؤولين جزائريين – عل قلتهم – من مختلف الفئات و المستويات, يقاومون بشدة مظاهر الانحراف و الفساد المنتشرة انطلاقا من أنفسهم, معتمدين في ذلك على مبادئهم الأخلاقية, رافضين أن يكونوا فاسدين و مفسدين باسم المجتمع و مؤسساته.

علاوه أمير فنور – البليدة في 17-05-2012.

 

Partager cet article
Repost0
20 mars 2012 2 20 /03 /mars /2012 22:09

 Snapshot_2-copie-2.png

يوم النصر

ينبلج الصبح ببطء وسط نسيم هادئ, يتنفس معه اليوم الجديد آخذا وقته في ذلك الزفير الصامت الذي يُحرك أوراق الأشجار, و كأن به يتنهد من طول ليل حاسد, مخيف و قاس. لكن بشرى خيوط الشمس الأولى تزف إلى الجبال و سكانها البسطاء شيئا ما, شيء يظهر من خلال ذلك الجمال الغريب, الذي ما فتئ يزداد وضوحا يوما بعد يوم, صبحا بعد صبح, طيلة الأسابيع الأخيرة. و ها هي البلاد تدخل اليوم الثامن عشر من شهر مارس/آذار, من عام 1962..., هذه الأيام توحي بأن شيئا ما سيحدث, شيء جميل   !  .

يسير الرجال في صف طويل على طول التل الذي يُطل على مروج شديدة الاخضرار, مترامية على مد البصر,تكاد لتوها تودع عتمة الليل الداكنة الرطبة. خطوات الرجال متثاقلة و لكنها مؤكدة, حيث يسير النقيب متقدما مجموعته و هو يلهث بعد أن أعياه صعود التلة, بل وسير ليلة كاملة للوصول إلى وجهتهم المحددة. يسير و هو يتفحص بين الفينة و الأخرى التلال و المروج المحيطة, و كأن به يمسح المكان ببصره على سبيل الفطنة, ثم يلتفت خلفه يتفقد حال رجاله, التي لم تختلف كثيرا عن حاله, كلهم يلهثون, كلهم يتثاقلون..

_ " ليتوقف الجميع   !  , سنستريح لربع ساعة, ثم نواصل ".

صاح النقيب على رجاله, و قد وضع حقيبة ظهره على الأرض, أو بالأحرى رمى بها على الأعشاب الكثيفة, و هو يجثم على ركبة واحدة واضعا بندقيته برفق فوق الأخرى, يتفحص المكان باستمرار, في الوقت الذي امتدت فيه يده إلى وراء حزامه العسكري الغليظ باحثة عن قنينة الماء المُعلقة به, فأخذ بها و ارتشف ما بقي فيها من ماء, في حين استمرت مقلتاه في الدوران, إلى التلال يمينا, إلى التلال شِمالا, كيف لا يكون محترسا باستمرار و قد صار هذا السلوك لا إراديا, بعدما صقلته حرب ضروس دامت سبع سنين و أربعة أشهر حتى الآن ؟   !  .

_ " خطوط و مراكز الفرنسيس بعيدة عن هذه المناطق الجبلية الحصينة أيها النقيب   !  ".

سمعها النقيب قادمة من وراء ظهره فالتفت, ليجد الملازم ينظر إليه باستفهام, و كأن به يسأله عن هذا الحذر الدائم و الزائد, لكن النقيب لم يرد عليه, و كأن به يخبره بأن يُغلق فمه, لأنه لم يعش و لم يخبر الكمائن و المواجهات التي خبرها طيلة هذه الحرب الرهيبة, التي لم يتوقع لها أن تدوم كل هذه السنوات, أو تكون بهذه الدموية يوم التحاقه بمعسكرات التدريب السرية, التي أقامتها المنظمة الخاصة مباشرة بعد مجازر الثامن مايو, التي لا يزال يحتفظ بصورها المرعبة في ذاكرته المنهكة بجميع أنواع الصور البشعة, التي رآها طيلة حياته التعيسة. كيف لا يكون احترازيا و جسده الهزيل يحتفظ بآثار الرصاص و الشظايا و خدوش الأسلاك الشائكة و آثار الاستنطاق و التعذيب, و التي كانت ستختصرها مئات الصفحات من دفتر يوميات أو مذكرات ؟   !  .

راح أحد الجنود الشباب يخلع جزمته العسكرية بصعوبة و هو يتألم و يتأفف مطلقا زفير من يتذمر من الوضع برمته, قبل أن تعلو محياه نظرات ذهول ممزوجة بخيبة واضحة, و كأنه تأكد مم كان يخشى حدوثه, فقد انتزع جوربه المبلل ليكتشف أنها دماء ناتجة عن عدم تحمل جلدة قدميه ساعات طويلة من السير المستمر عبر الجبال, فطفق الشاب يسب و يلعن, مستخدما في ذلك ما يزخر به قاموس الكلمات النابية الجزائري من كلام بذيء, قبل أن يصله صوت من خلفه تعلوه بحة يطلب منه أن يصمت و يحترم نفسه, فالتفت إليه المراهق و هو يستعد ليكون رده ممجوجا و ملونا بكلمات أكثر قبحا, لكنه سيطر على نفسه في آخر لحظة, و كأن به يبتلع تلك الفقاعة النتنة التي ملأ بها فمه بصعوبة, بعد أن أدرك أن صاحب الصوت هو كهل في نصف العقد الخامس من العمر, حمل السلاح قبله بسنوات, و ظل يصر على إنهاء المعركة رغم حالته البدنية المتدهورة, إذ أنه لم يعد يتحمل السير و الركض و القفز, دون الحديث عن شراسة فصول البرد و الحر و لعنة الجوع التي لاحقت الجميع على مدار سنوات, لكن عجبا, فالرجل لا يزال حاضرا و ثابتا رغم كل شيء   !  .

كان النقيب يراقبه عن بعد و هو يُفكر في حال هذا الرجل, الذي لم يكن في الأصل سوى مزارع أمي بسيط, يعيش حياة هنيئة رغم قساوتها, يوم جاءت حاملات جند فرنسية في ذلك اليوم الربيعي المشمس الجميل من عام 1945, فطوقت مجموعة البيوت الطوبية المتلاحمة التي كان يعيش فيها رفقة عائلته الكبيرة, و كما يحكي هو نفسه, فقد كان يومها قادما من بعيد تاركا أغنامه خلفه, بعدما رأى من بعيد الجند و هم يصرخون على أهل البيوت يأمرونهم بالخروج إليهم, فراح يسير نحوهم ليستفسر عما يحدث. حين كان يتقدم من بعيد فإذا به يرى ابنه البكر الذي جاز عتبة الباب و علامات الاستفهام و القلق تلف وجهه, و من دون سابق إنذار, يسقط فجأة على الأرض برصاصة في العنق, جاءته من بندقية أقرب جندي منه, حيث ضرب صدى إطلاقها التلال المحيطة و سمّر الأب في مكانه, و هو يرى ابنه المراهق يتخبط للحظات أمام الباب و قد فارت دمائه من فمه, قبل أن يتوقف نهائيا عن الحراك, لتتعالى صرخات النساء من الداخل و يتقدم الجنود نحو التجمع السكني راجلين من جميع الجهات, في حين ظل الأب متخشبا في مكانه يراقب ما يحصل من فوق التل, و قد تسارعت أنفاسه و راح بدنه يرتعش خوفا و وجلا وهو ينظر إلى ابنه القتيل.

_ " اسقطوا الموري(1) الحقير   !!  .... اقتلوه   !! ..."

صرخ الضابط الفرنسي على رجاله و هو يشير بسبابته نحو فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر, كان قد فقز لتوه من فوق حاجز طيني منخفض, محاولا الفرار بعدما رأى ما حدث لابن خالته, لكن الرصاصات اخترقت ظهره و صدره, و طار فكه السفلي برصاصة جانبية في الوجه, ليسقط من فوره وسط طيور الدجاج و الديك الرومي التي كانت تركض في جميع الاتجاهات هاربة من صوت البنادق.

حينئذ, و من دون شعور, وجد المزارع المصدوم نفسه و هو يركض مبتعدا عن المكان عسى ان ينجو بنفسه من غضب ألائك العسكر, إذ ركض مسافة معتبرة بأقصى سرعة, قبل أن يتوقف هنيهة و هو يلهث بشدة, بعدما كاد بكاءه و نحيبه يخنقانه, فالتفت نحو جهة منزله الواقع خلف الربوة التي عبرها جريا و وثبا, ليرى أعمدة من الدخان الأسود و الرمادي الكثيف و هي تتصاعد من هناك, فأدرك أن العسكر قد أضرموا النار في البيوت و المحاصيل. لكنه تابع الهرب و قلبه يتقطع على أسرته, و هو لا يفهم لم و بأي سبب فعل الفرنسيون فعلتهم تلك, لكن الجواب جاءه بعد أيام, و هو أن الأوروبيين كانوا ينتقمون لبعض قتلاهم, بسبب مظاهرات سلمية أقامها الجزائريون احتفاء بانتصار الحلفاء في الحرب, و عودة أبنائهم من جبهات القتال الأوروبية, مطالبين فرنسا بالوفاء بتعهداتها تجاه منحهم حق تقرير مصيرهم, فكان رد الشرطة الفرنسية هو إطلاق النار عليهم, فانفجار الوضع.

ينظر النقيب إلى ذلك الرجل الغارق دوما في صمته الحزين, و نظراته الشاردة, يستذكر قصته الفظيعة مع الفرنسيس و هو يعلم أنه كالكثير من المجاهيدن, إنما حمل السلاح في السنوات الأولى لحرب الاستقلال, لدوافع شحصية, أساسها الغضب الشديد و الرغبة في الانتقام لما حدث لذويه خلال أحداث مايو 1945, قبل أن يعي و يدرك خلال سنوات القتال الطويلة و الرهيبة, أنه لا يجب حصر الأمر في هذا الجانب فحسب, بل هناك أمر أكبر منه بكثير, و هو الذي حرك مجموعة من 22 جزائريا ليخططوا لتفجير فقاعة الغضب هذه في وجه دولة الاحتلال و الكولون(2) أول مرة, كما أن احتكاكه بالشباب الجزائريين الذين شاركوا في الحرب العالمية, و الذين تمكنوا خلالها من التخلص من عقدة الخوف التي تكسرت فوق شراسة النازيين و الفاشيين, بعد كل تلك المواجهات وجها لوجه في المعارك الطاحنة, و اكتسبوا حس الوطنية و قيم الحرية و الاستقلال, بعدما اختلطوا بجنود الحلفاء, ساهم في تحسيسه رفقة أمثاله من المزارعين و القرويين البسطاء الذين تحولوا إلى جنود, بأن الأمر يتعلق فعلا بحرب استقلال و ثورة تحرر و ليس مجرد انتقام أو " حرب بلا اسم ".

راح النقيب ينظر إلى جنوده و هو يعلم أن كل واحد منهم قد مسته هذه الحرب بشكل عميق, فهاذا فقد أبويه, و ذاك لديه أشقاء ينتظرون حكم الإعدام في سجون الاحتلال, و الآخر يجهل تماما ما حل بأسرته التي هُجّرت قسرا إلى مراكز الاعتقال, التي يقبع بها أكثر من مليون جزائري, هناك من اغتصبت بناته من طرف مظليي الجيش الفرنسي, و هناك من قُطعت أعناق أبنائه بسكاكين ميليشيات الحركى(3), و هناك من فقد جميع أهله, بل و فقد جميع أفراد عشيرته الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم, في غارات الطيران و القصف المدفعي على قرى و مداشر مُحيت نهائيا من على الخارطة, فبقي وحيدا, ليس له أحد أو مكان يعود إليه بعد انتهاء الحرب سوى الركام و المقابر الجماعية. فكيف لا يغرق المرء في جنون الغضب و الغل و تضيع روحه وسط عاصفة محيط الحزن و الانتقام الداكن ؟.

يتنهد النقيب, ثم يتذكر شيئا, فهل من أخبار جديدة قد تصلهم عند بلوغ المركز الذي هم في طريقهم إليه عن المفاوضات ؟, يُشاع أن السي بالقاسم(4) و رفاقه يتوجهون لإخضاع المفاوض الفرنسي و طرحه أرضا و بشكل نهائي, يبدو الأمر جنونيا لوهلة, و لعل السبب بسيط, و هو أن هذا الجيل الثوري المقاتل, قد يكون أول جيل سيعيش و يخبر معنى " الاستقلال " لأول مرة منذ 1830 ؟ !!, أجل, " الاستقلال ", فاكهة تبدو خرافية نوعا ما بالنسبة لشخص لم يتذوق طعمها منذ أن جاء إلى هذا العالم, بقدر ما سمع عنه فقط, طعم خرافي !.

لا وجود لاتصالات منذ أيام بعد أن تعطل جهاز المورس, فالفصيلة ظلت معزولة وسط الجبال و الغابات طيلة هذا الوقت, لذلك انطلق الرجال مرة أخرى يسيرون في خط طويل, مع الطول المتزايد لظلالهم التي كانت تعانق الأحراش و الشجيرات و الأزهار كلما زادت الشمس إشراقا في الأفق, مع هبوب نسيم ربيعي عليل منقح بروائح و عطور النباتات, و كأن بالأرض تبعث لهم بتحياتها و امتنانها, سنوات من القتال و الخوف و الحزن و الجوع و الصبر, من أجلها و فقط. ثم ماذا بعد ؟, سيصلون إلى مركزهم, ليجودوا تعليمات جديدة تنتظرهم, عمليات اختراق و عبور للحدود من أجل تأمين قوافل تهريب السلاح نحو الداخل, حمل لوثائق أو مستندات مهمة, تأمين تنقل شخصيات قيادية داخل الولاية التي يتبعونها إداريا, كمين لقافلة عسكرية للعدو, هجوم على مراكز عسكرية فرنسية متقدمة أو استهداف لمنشآت قاعدية....., فمفاوضات "إفيان" الثانية قد تفشل كما فشلت سابقتها على أية حال, ثم ماذا بعد ؟, لقد حاربوا لسنين إلى درجة أنهم و رغم تعبهم و انهيارهم, لم يعد الاستمرار في القتال و الحرب يمثل لهم مشكلة كبيرة, فليس هناك ما قد يخسرونه بعد كل الذي حدث, رغم أن الجميع قد سئم هذه الحرب, حتى الجلاد القوي نفسه لم يعد يحتمل هذا القدر من العنف و الفظاعة.

بعد بضع ساعات أخرى من المسير عبر الغابات و المرتفعات الجبلية, لمح النقيب أحد الحراس يقف من بعيد فوق إحدى الصخور الشاهقة, و هو يلوح له بيده, و كأن به يطلب منه الاستمرار بعدما عرفه و عرف الفصيلة, و الغريب في الأمر أنه كان يبتسم ؟. هذه أول مرة طيلة سبع سنين من الحرب يُرى فيها جندي في نوبة حراسة يبتسم من دون سبب ! . فقد وصلوا إلى مركز الكتيبة الذي كانت تغطيه أشجار البلوط و الصنوبر الكثيفة, لكن النقيب و رجاله لاحظوا حركة غير عادية في المحيط و هم يلجون إليه, كان هناك صياح متفرق هنا و هناك, ينادي بحياة الجزائر, انتشرت معه همهمة بين جنود الفصيلة و هم يسألون بعضهم عما يجري, فإذا بالنقيب يلمح جنديا شابا يجري ساعيا في طريقه إلى أحد المكاتب, و وجهه يفيض بعلامات الاستبشار و هو يحمل بعض الأوراق في يده, فأوقفه و هو يسأله عما يحدث بحق الجحيم ؟.

_" لقد وصلتم متأخرين بعض الشيء سيدي النقيب, قبل نحو نصف ساعة قُرئ علينا بيان مهم صادر عن المجلس الوطني للثورة, و لكن ألم تصلكم المستجدات عبر اللاسلكي ؟ ! ".

_ " ما الذي حدث ؟, تكلم أيها الجندي ! ".

_" لقد, توصلت الحكومة المؤقتة لاتفاق وقف القتال مع الطرف الفرنسي, سيدخل حيز التنفيذ منتصف يوم غد, لقد رضخت فرنسا أخيرا لمطلب حق تقرير المصير !!".

اغرورقت عينا الجندي و هو ينظر إلى وجه الضابط المذهول, ثم قال بصوت مرتعش متقطع غمرته الفرحة و التأثر, و كأن به لا يُصدق ما ينطق به لسانه...

_ " سيدي النقيب, لقد انتهت الحرب, لقد انتصرنا !!! ".

في تلك الأثناء تصاعد الصراخ وسط الجنود, و الكل لا يكاد يصدق ما يسمع, فأخذ الشباب الذين كانوا في مؤخرة التشكيل يحاولون استراق السمع و بعضهم يقفز إلى الأعلى, عسى أن يرى أو يفهم ما الذي يحصل, إلى أن وصلتهم صيحة تقول بأن الحرب قد انتهت, في حين راح ضباط الصف يصرخون و يأمرون بالتزام الهدوء و الانضباط و بعضهم يبتسم, في حين ظل القائد واقفا مكانه و هو شارد الذهن يحاول أن يضع الأمور في نصابها داخل رأسه, لكنه لم يستطع, و الحقيقة أن مظاهر الفرحة كانت لا تزال تسيطر على جميع أفراد الكتيبة, في حين انفجر بعض الجنود بالبكاء من شدة التأثر فهل يُعقل ؟, هل يعقل أن ينتهي الأمر بكل هذه البساطة ؟, من كان يصدق بأن فرنسا الجبارة قد رضخت أخيرا !.

في تلك الأثناء التي راح فيها الجنود يتبادلون العناق الحار, و تعالى هتاف رجال الكتيبة مرة أخرى, بكى البعض بحرقة و هم يتذكرون كم كان الوصول إلى هذه اللحظة عسيرا و مؤلما, كم كانت السنين العجاف قاسية مع الجميع, و كم كان الثمن باهظا. أما الكهل الذي أبيدت عائلته و صودرت كل أملاكه في مجازر مايو 1945, فقد ظل هو الآخر واقفا في مكانه يتفرج على الجميع بدهشة غريبة, لم تبد معها أي علامات تأثر عميقة, لكنه و بعد أن وقف دقائق معدودة في مكانه يتلقى العناق و القبلات من طرف رفاق السلاح, جثم بهدوء على ركبتيه, ثم وضع جبينه على الأرض, و راح يبكي بحرقة شديدة, إلى درجة أن دموعه بللت التراب من تحت وجهه.

انسحب النقيب في صمت بعدما قدم التحية لرجاله, و بعدما هنأ بقية الضباط في الكتيبة, فقد اختلى بنفسه في مكان معزول وسط الغابة, فأسند ظهره إلى جدع شجرة بلوط, و طفق يبكي هو الآخر كما يبكي الطفل الصغير, فقد كان يمر أمام عينيه في تلك اللحظات شريط صور هذه الحرب منذ بدايتها و وصولا إلى هذا اليوم العظيم, كان يرى صور أحلك الظروف التي عاشها رفقة الكثيرين, ذكريات فصول الشتاء القارص و أشهر الثلج و الصقيع و الحصار البري و الجوي و المطاردات, صور جثث آلاف الرفاق المدرجة بالدماء و المليئة بثقوب الرصاص, صور أشلاء الشهداء المعلقة فوق الأسلاك المكهربة, صور القرى المدمرة عن آخرها و وجوه الأطفال و العجائز التي فقدت ملامحها بسبب الركام و الأتربة و الرماد, أصوات عويل الأرامل و بكاء اليتامى.

لكنه لم ينس بعض اللحظات اللطيفة التي عاشها رفقة رجاله و إخوته في السلاح في بعض المناسبات, و هو ما زاد في تأثره أكثر, كصور تلك الأعراس البسيطة للجنود أو الضباط الذين حالف بعضهم الحظ ليعيش هذا اليوم, لكن البعض الآخر لم يعش حتى يرى وجه مولوده الأول, الذي سيكتب له اليوم بأن يعيش تحت راية وطن مستقل, تلك اللحظات الحميمة التي كانت تجمع الجميع و هم يستعدون لأخذ الصور التذكارية التي كان يلتقطها الصحفيون الأجانب من أصدقاء الثورة, أو رجال الدعاية الحربية في جيش التحرير, و الجميع يجزم بأنها صور ستبقى و ستحفظ في متاحف الجزائر المستقلة, لتطلع عليها أجيال الاستقلال و تشعر بالفخر لتاريخ هذه الأمة المحاربة. كان النقيب يرى وجوه ألائك الشباب الباسمة في لحظات النكت أو المزاح, ألائك الشباب الذين لم يحالفهم الحظ ليشهدوا على هذه النهاية الكبيرة, و لم يحالفهم الحظ يوما بأن يعيشوا حياتهم أو يستمتعوا بها كما ينبغي, فقد كانت أرواحهم ضريبة الاعتراف بالوجود, و كانت دمائهم الحبر الذي خُط به كتاب المجد, فنظر الضابط نحو السماء و هو يمسح دموعه محاولا استرجاع أنفاسه, متمنيا أن تكون الأخبار قد وصلتهم.... أينما كانوا.

----------------------------------

1-    الموري هي كلمة من أصل إغريقي, كانت تُطلق في عهد اليونان القيدمة على الشعوب غير الإغريقية عموما, و على شعوب شمال افريقيا بالخصوص, و قد ظلت هذه الكلمة تستعمل إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر (Maure), للدلالة على الأهالي الجزائريين.

2-    الكولون أو " الأقدام السوداء " و هم جميع المستوطنين الذين جاءوا من أوروبا بعد سقوط الجزائر في قبضة الاحتلال الفرنسي, من فرنسيين, إيطاليين, مالطيين, ألمان و إسبان, حيث أعطيت لهم امتيازات كبيرة, على رأسها الأراضي و العقارات التي انتزعت من ملاكها الأصليين في القرن التاسع عشر. و رغم أن اتفاقية إيفيان, التي أنهت الحرب بين جبهة التحرير الوطني و الحكومة الفرنسية, و مهدت لاستقلال لجزائر, قد ضمنت حقوق من أراد من هؤلاء الأوروبيين البقاء في الجزائر لكن بصفتهم رعايا أجانب أو كجزائريين إن اختاروا الجنسية الجزائرية, إلا أن غالبيتهم رحلت بسبب مجازر منظمة الجيش السري الإرهابية الفرنسية ( OAS ) التي رفضت استقلال الجزائر, و حتى ممارسات بعض الجزائريين الذين لم يفهموا – لسبب أو لآخر – مضامين الاتفاقية.

3-    الحركى كلمة جزائرية دارجة, معناها " الخونة ", و هي تطلق على الجزائريين الذين اختاروا طواعية القتال تحت راية الجيش الفرنسي ضد الثورة الجزائرية, بصفة مخبرين سريين أو جنود فرنسيين, كما كانوا يشكلون ميليشيات مسلحة, و قد ارتكبوا أعمال وحشية في حق عائلات مقاتلي جيش التحرير الوطني, من ذبح و نهب و اغتصاب.... و قد بلغ عددهم وفق بعض الإحصائيات نحو 120 ألف, تم طرد غالبيتهم الساحقة إلى فرنسا عند نهاية حرب الاستقلال, بينما لقي الكثير منهم نهاية مأساوية على يد الجزائريين, قبل و بعد التوقيع على اتفاقية إيفيان.

4-    كريم بالقاسم (1922-1970), أحد المفجرين الأوائل للثورة الجزائرية, و أحد آبائها الأقوياء,عضو مجموعة الستة و قائد الولاية التاريخية الثالثة. عضو لجنة التنسيق و التنفيذ و عضو الحكومة الجزائرية المؤقتة و أحد الموقعين على اتفاقية إفيان. أغتيل عام 1970 بفارنكفورت الألمانية, و لا يزال الاعتقاد قويا بأن نظام الرئيس هواري بومدين هو من يقف وراء هذه التصفية.

Partager cet article
Repost0
22 février 2012 3 22 /02 /février /2012 13:44

  

محاضرة نعوم تشومسكي حول ما يسمى بالحرب على الإرهاب

 

يعود بنا هذا التسجيل إلى تاريخ 06/02/2002, حين قام عالم اللسانيات و المحلل السياسي المخضرم, نعوم شومسكي بإلقاء محاضرة في جامعة هارفارد. و بأسلوبه الأكاديمي المميز, الذي يجمع بين السخرية و الجد, تناول موضوعا اعتبر حينها في غاية الحساسية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول, على مبنى مركز التجارة العالمي و وزارة الحربية الأمريكية, و ما نتج عنه في الأشهر التالية من ردود فعل أمريكية ألقت بظلالها على شكل و سير العلاقات الدولية بشكل هائل. هذا الموضوع هو ما سمي و يسمى بـ" الحرب على الإرهاب ".

يعالج شومسكي عدة قضايا من خلال عرضه لبعض الجوانب التاريخية لنشأة مفهوم الدول الراعية للإرهاب, الذي أوجدته الإدارة الأمريكية كمقدمة للحرب على الإرهاب, بداية عقد الثمانينات كأداة جد فعالة, لتحقيق مآربها و أهدافها الاستراتيجية عبر عدة بؤر مضطربة في العالم, و على رأسها الشرق الأوسط.

و في هذا الصدد يقدم تشومسكي عدة ملاحظات و تحليلات, حول اختلال المعايير الأخلاقية, التي كان يفترض بها أن تكون المرجع الأساسي الذي ينبغي على الجميع – بما فيهم زعماء الغرب – تطبيقه على أنفسهم قبل المناداة بتعميمه على بقية الشعوب, إذ يوضح بشكل منطقي و عقلاني لا يقبل الجدل, نفاق الساسة و الرؤساء الأمريكان, فيما يخص دفاعهم المزعوم عن ما يسمى " حقوق الإنسان " و الحرية و الديمقراطية عبر العالم, فيبين شومسكي بشكل ذكي و متسلسل كيف أن هذه الإدعاءات دفعت بأمريكا نفسها إلى خلق أكبر و أفتك شبكة في العالم, متمرسة في نشر الإرهاب الدولي الذي تدعي الولايات المتحدة أنها تحاربه, لسبب بسيط, و هو – حسب تشومسكي – أن القادة الأمريكيين يؤمنون في أدبياتهم السياسية تجاه العالم, بأن مركز القوة هو المعيار الوحيد في الحكم, مادامت هذه القوة في يد الولايات المتحدة, بغض النظر عن واقع الحقوق لدى أي جهة أخرى, و يضيف المفكر في نفس السياق أمثلة عن تواطؤ الصحافة الأمريكية مع هذه المجريات, و التفادي المقصود لكتابة تاريخ هذه الحروب بالموضوعية اللازمة, لاكتمال دائرة الكذب الممارس لعدة عقود في الغرب, حول حقائق التدخلات العسكرية الأمريكية – الغربية في دول أخرى, و التي ظلت تحمل ذرائع ذات صبغة أخلاقية, في مقدمتها ذريعة محاربة الإرهاب و الدول الراعية له.


 

رغم تحليلاته العميقة و نظرته النقدية الثاقبة, إلا أن هناك نقطة أشار إليها تشومسكي في المحاضرة, و التي يتحفظ عليها كاتب هذه الأسطر, و هي إعراب شومسكي عن " رفضه القبول بالعنف في شكله القانوني و على جميع المستويات, حتى لو كان هذا العنف عنفا مضادا أو ردا على عنف الطرف الآخر". أي بعبارات أخرى فإن المفكر هنا يقع في شبه تناقد مع نفسه, و هو الذي ساق امثلة عديدة عن مختلف البنود الأممية التي تدعم حق الشعوب في الدفاع عن استقلالها ضد الاحتلال الأجنبي و النظم العنصرية. فبالرغم من إعرابه الصريح لرفضه جميع أشكال العدوان و الإرهاب الذي اقترفته الولايات المتحدة و حلفائها في حق الكثير من الدول و الشعوب, فإن شومسكي – بحسب ما فهمه كاتب هذه الأسطر – يعتقد أن العنف المضاد الذي نتج عن هذه الشعوب, انتقاما من جرائم الولايات المتحدة, هو أمر مرفوض كذلك, بالاحتكام إلى المعايير الأخلاقية التي قامت عليها القوانين الدولية, و التي "يفترض" أن يتقيد بها الجميع, و التي أثبتت العقود أنها مجرد طوبويات, رغم أننا نعتبر وجودها " الرمزي " أفضل من عدم وجودها الكلي, لأنه سيذكرنا على الأقل بأننا مجتمعات بشرية.

لكن لو اتبعنا منطق شومسكي في رفض العنف المضاد " حتى لو كان مبررا بشكل لا يقبل الريبة " بشكله العمومي, فنقول إذن أن حرب الاستقلال الجزائرية مثلا, كانت خطأً جسيما اقترفه الجزائريون في حق فرنسا الاستعمارية, بالنظر إلى الوسائل العنيفة التي استخدموها لإيصال رأيهم لرابع قوة عالمية إذاك, بعدما فشلت كل محاولاتهم السياسية و نضالهم السلمي في وضع نهاية للاحتلال, و التي انتهت بمجازر الثامن مايو 1945, التي راح ضحيتها أكثر من أربعين ألف جزائري ؟. فشومسكي و برفضه شبه المطلق لأشكال رد الفعل العنيف تجاه العدوان – و هنا مربط الفرس – لم يقترح بديلا فعالا آخر يلجأ إليه الطرف المظلوم في حالات كهذه, مادامت الهيئات الدولية عاجزة عن فعل شيء, و مادام منطق القوة هو معيار التعامل الوحيد المتبع داخل المجتمع الدولي الحالي, و بقبول و مباركة مبطنة من قادة العالم الغربي أنفسهم.

رغم ذلك تجدر الإشارة إلى النقاش الذي يجب أن يفرضه واقع ردود فعل بعض الأطراف تجاه العدوان الأجنبي المعاصر, حول التعريف و الوصف الدقيق لمصطلحي المقاومة و الإرهاب, و التفريق بينهما على المستوى الفلسفي و الأخلاقي و السلوكي قبل كل شيء. فبعض المنظمات التي تصف نفسها بالمقاومة و الجهادية, باتت تتبع أساليب خاطئة في الرد على عدوان القوى العظمى, بل و ضارة بالدول و المجتمعات التي تدعي تلك المنظمات بأنها تدافع عنها, كاختطاف رعايا الدول المعتدية من المدنيين و قطع رؤوسهم أمام عدسات الكمرات على سبيل المثال, و هو سلوك غير مقبول بل و مقزز إذا نظرنا إليه من زاوية أخلاقية و إنسانية, رغم أن تاريخ القوى العظمى مليء بعمليات الإبادة و القتل المقصود و الممنهج للمدنيين و الأبرياء, و ربما تكون هذه هي الفكرة التي قصدها شومسكي في المحاضرة ؟. و السؤال المناسب لهذه الإشكالية الفلسفية هو: ما هي المحددات أو الضوابط المعيارية الأساسية, التي نعي من خلالها الحالات التي يجب فيها الرد على عدوان الآخر بالمثل, و محددات الحالات التي نمتنع فيها عن ذلك الرد, بدافع منع أنفسنا من النزول إلى مستوى همجية و وحشية الآخر, و إتباع أساليب رد أخرى ؟.

رغم هذا النقد المتواضع الموجه إلى أفكار عالم اللسانيات الكبير, نعتقد بأنه قد أصاب في جل تحليلاته لمسألة ما يُسمى بالحرب على الإرهاب, و هو يبقى مرجعا أساسيا في الفكر النقدي المتحرر من أشكال " الدكتاتورية الفكرية غير المباشرة ", التي تمارسها الأنظمة و النظم السياسية و الاجتماعية على الأفراد, داخل الدول التي تصف نفسها بالديمقراطية, إذ يبقى نعوم تشومسكي أحد رواد فلسفة التفكير المنطقي, و ربما آخرهم في العالم المعاصر.

Partager cet article
Repost0
31 janvier 2012 2 31 /01 /janvier /2012 17:04

matrix[1]

 ما يجب أن تعرفه عن قادة النظام العالمي الجديد و محركات البحث عبر الانترنت.  

عندما ألف الروائي البريطاني " جورج أورويل George Orwell   " رواية " الأخ الكبير " عام 1949, التي تحدثت عن نظام شمولي عالمي يراقب كل صغيرة و كبيرة في العالم, لم يكن القراء على علم آنذاك بأن بعض القوى العالمية و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية, كانت قد انطلقت عمليا في تنفيذ هذا المشروع الثوري, قبل صدور رواية الأخ الكبير ببضع سنوات, و بالضبط في عام 1943, و لم يكن أحد يُصدق إذاك بوجود نظام جاسوسي عالمي حديث يراقب كل المعلومات المتداولة عبر العالم, سواء عبر التلغراف, الهاتف, الفاكس و لاحقا عبر البريد الالكتروني, إلا عند اقتراب الحرب الباردة من نهايتها, عندما نشر الصحفي البريطاني " دونكان كامبل Duncan Campbell   " مقالة في عام 1988, أشار فيها إلى وجود نظام تجسسي غربي عملاق تحت مسمى " نظام إيشلون Echelon System   ", تقوده الأجهزة الأمنية الأمريكية و البريطانية, للتنصت و التجسس على جميع الرسائل و الاتصالات المتداولة عبر العالم, ليس لاعتبارات أمنية أو عسكرية فحسب, بل لأهداف سياسية و اقتصادية كذلك.

منذ ذلك الحين زاد يقين فئات من المجتمع بوجود مجتمع نخبوي سري حقيقيي, يقف خلف هذه الحكومات و يظم أقلية من أثرياء العالم المهوسين بنظريات السيطرة, يرغب في السعي الحثيث لتحويل مفهوم " العين التي ترى كل شيء " و الذي تتخذه هذه النخب شعارا لها إلى واقع ملموس و حقيقي, بعد أن بات عصر الرياضيات و التقنية يسمح بذلك, و بعدما فتح السقوط المُبرمج للكتلة الشرقية الباب على مصراعيه للنخبة العالمية, من أجل الانفراد الكلي بقيادة مصائر قرّات و دول و وشعوب, نحو ما بدا حينها عصر الانفتاح و التحرر الكلي من جميع أشكال القيود و الكبت و الاستعباد, التي مارستها الحكومات و الأنظمة السياسية و الاجتماعية القطرية, نحو مجتمع عالمي لا يحده أي نوع من الحدود, تم رسم معالمه تحت اسم النظام العالمي الجديد.

و وصولا إلى عقد التسعينات, فقد أحدثت الانطلاقة الصاروخية و غير المسبوقة للشبكة العالمية " انترنت", ارتدادات مست نمط عيش المجتمع البشري بشكل راديكالي, إذ عرف هذا المجتمع تغيرات فكرية و اجتماعية و ثقافية كبيرة في ظرف وجيز جدا, بحيث أنه و على امتداد عقدين من الزمن, عرفت البشرية تغيرات أسرع و أعمق – اجتماعيا و ثقافيا – مما عرفته طيلة الفترة الممتدة ما بين قيام الثورة الصناعية في بريطانيا إلى انهيار جدار برلين. الشيء الذي فرض على سعاة السيطرة إيجاد طرائق جديدة, للرقابة و ملاحظة و دراسة و فهم ديناميكية تطور المجتمعات في مختلف مناحي حياتها – خاصة الاقتصادية منها – على ضوء تأثر هذه المجتمعات بالحركية التي راحت الانترنت تمارسها عليها, و ذلك في سبيل صياغة الخطط و تبني الطرائق المناسبة للتعامل مع هذا المجتمع العالمي الجديد الذي أوجدته الانترنت, لوضعه تحت السيطرة دائما, لأهداف اقتصادية أساسا, تتبعها أخرى سياسية, اجتماعية, ثقافية....الخ.

لقد كانت أولى ملاحظات المتتبعين لتطور الشبكة العنكبوتية أواسط التسعينات, أنها لا تخضع لأي نمط محدد في توسعها الرقمي, و ذلك لكونها تتميز بخاصية إفساح المجال لأي شخص أو مجموعة او هيئة يُمكنها أن تترك بصمتها الخاصة في هذا التوسع و التطور المطرد, فآلاف الأشخاص و المؤسسات و من مختلف البلدان و القرات طفقوا يزودون الشبكة يوميا بمئات الآلاف من الوثائق و المنشورات و البرمجيات و وسائل الخدمة عبر الخط, من خلال تأسيس مواقع و مدونات في مختلف المجالات, و لم ينتظر العالم إلا بضع سنين ليرى هذه الشبكة و هي تتحول إلى أكبر فضاء للمعلومات و الاكتشاف و التواصل و التعبير الحر و المعاملات بكل أنواعها على الإطلاق. و هنا يطرأ السؤال الأكبر على الذهن, و هو الخاص بموقع النخب العالمية ( قادة النظام العالمي الجديد ) من هذه الثورة العظيمة, خصوصا إذا سلمنا بحقيقة أن التطور الانفجاري لشبكة الانترنت و عالم الويب, قد كرس حقيقة مفادها أن الاحتكار السابق للمعلومة و الحقيقة مهما كان نوعها و وزنها و معيارها قد صار من الماضي, و أنه اليوم يوجد واقع جديد يقول بأن اي شخص, مهما كان مستواه و انتمائه و موقعه الجغرافي, يُمكن أن يحصل على المعلومة و الحقيقة بنقرة واحدة على الفأرة, و أن المعيار الوحيد الذي يصنع الفرق بين شخص و آخر هو نوع تعامله مع تلك المعلومة و كيفية استخدامها و لأي غرض يتم ذلك الاستخدام, دون إغفال الفروق بين شخص و آخر أو مجموعة و أخرى في قدرة الوصول إلى المعلومات الصحيحة و الحقائق السليمة و التفاعل معها بالشكل الأمثل, و هنا – في نظرنا – يوجد أحد مفاتيح فهم العلاقة بين الانترنت و بين من يقودون العالم, و يحاولون رسم معالمه بما تقتضيه مصالحهم و أهدافهم النهائية. و في سبيل هذا كانت القاعدة و لا تزال بسيطة, و قد تم نقلها من عالم الصحافة و الإعلام إلى عالم الويب مع تغييرات في الشكل و ليس في المضمون و هي تقول: " من يتحكم في مصادر المعلومات و المعرفة... يتحكم في نمط سير الآراء و العقول ".

لقد كانت أولى الخطوات التي توحي بالتحرك غير المعلن لإخضاع سلوك شبكة الانترنت لنوع من الرقابة, و محاولة تنظيم عملها, أمام الضغط الهائل الذي صار يمارسه الرواد الباحثون عن كم لا يحصى من المعلومات و المعارف و الترفيه و التعارف و توسيع الآفاق, هو إيجاد ما يسمى بمحركات البحث, التي تعتبر في شكلها الصريح نوعا من البرمجيات, التي كانت تهدف في بادئ الأمر إلى تسهيل مهام رواد الشبكة في الوصول إلى أي نوع من المعلومات بكل سهولة, عن طريق إدخال الكلمات المفتاحية للبحث المراد تحقيقه, و في ذلك الحين كان من الصعب على البعض أن يتصور مثلا أن تكون تلك المواقع خاضعة لرقابة المؤسسات المخابراتية الأمريكية.

إن التسريبات الكبيرة التي هزت العالم في السنوات الأخيرة, و المتعلقة برؤوس الأموال الضخمة التي تضخها شركات استثمارية لتطوير محركات البحث عبر الانترنت, تكشف عن أن أكبر مواقع البحث على الشبكة, كمحرك غوغل العملاق و لواحقه مثلا, ترتبط بشركات استثمارية انشأتها وكالة المخبارات المركزية CIA   كشركة In-Q-Tel  , التي تم إنشاءها عام 1999 بهدف البحث عن الفرص الاستثمارية الواعدة, المتعلقة بالتكنولوجيات المتطورة و مواقع الانترنت, التي يمكن لها أن تصبح مواقع كاسحة, على شاكلة غوغل و فيسبوك و يوتيوب و غيرها, من أجل الاستثمار في هذه المشاريع الناشئة ( اختراقها ماليا و من ثم إداريا ), لجعل وكالة المخابرات المركزية الجزء الخفي منها. فمثل هذه الحقائق باتت من المسلمات حاليا, لذلك لن نفشي سرا إن قلنا أن أغلب و أكبر محركات البحث و ما يرتبط بها من خدمات كالبريد الالكتروني و المدونات و غيرها, الموجودة في أشهر المواقع, خاضعة لرقابة الأجهزة الاستخباراتية, لكون هذه الأخيرة شريكا في رأس مال الموقع, أو كمتعامل تجاري بالنسبة لمواقع أخرى, إذ صار بيع المعلومات و المعطيات الخاصة بمشتركي خدمات الويب للأجهزة الحكومية تجارة مربحة للشركات المشرفة على بعض تلك المواقع. و هكذا, فإن أمر وقوع أكثر المواقع شعبية في الشبكة تحت رقابة نظام إيشلون العملاق ( العين التي ترى كل شيء ) صار من المسلمات, و الأمر لا يتوقف عند هذا, لكنه أعمق بكثير, إذ ما الذي يمكن استخلاصه من طبيعة وجود محركات البحث في الشبكة ؟.

لقد كان مبدأ عمل محركات البحث البدائية سنوات التسعينات يقوم على أساس استعراض نتائج البحث, عن طريق ترتيب النتائج حسب عدد مرات ظهور المصطلح الذي يتم البحث عنه داخل الصفحة, و هو ما يفتح المجال للتشكيك في خلفية عمل محركات البحث نفسها, التي تبدو – إذا أخضعناها إلى هذا المنطق – و كأنها في الحقيقة وجدت لهدف آخر, و هو العمل كأدوات للسبر, تعمل على تشكيل أرضيات بيانية تخص أكثر المواقع المطلوبة التي يتم البحث عنها من طرف زوار الشبكة, و من ثم المواضيع و المعلومات المتعلقة بها, إضافة إلى عدد الأفراد و توزيعهم الجغرافي....الخ.

لكن و مع نهاية سنوات التسعينات, فإن برمجيات و أسس عمل هذه المحركات قد تغيرت و تطورت, لتتحول من العمل بمبدأ ترتيب النتائج حسب عدد مرات ظهورها, إلى مبدأ " تحليل العلاقات بين المواقع التي يتم البحث عنها ", و من ثم عرض تلك النتائج بحسب العلاقات المتقاربة بين المواقع, و هي التقنية التي اشتهر بها محرك البحث الأمريكي " غوغل ", و التي جعلت منه أحد أفضل محركات البحث على الإطلاق.

و في هذه النقطة يجب الاعتراف بأن هذا المبدأ قد حسن كثيرا من عمليات البحث عن أي نوع من مصادر المعلومات, كما جعل هذه العملية سهلة, سلسة و فعالة, و هي أشياء إيجابية تحسب للشبكة العنكبوتية. لكن التمعن في هذه الطريقة الجديدة التي تعمل بها محركات البحث و مقارنتها بالطريقة السابقة, يجعل ملاحظة مهمة تومض في العقل لوهلة, فماذا يعني الانتقال من استعراض النتائج بحسب عدد مرات ظهور كلمة البحث على المحرك إلى استعراضها بحسب العلاقات المتقاربة بين المواقع و بين كلمة البحث, خاصة إذا سلمنا بحقيقة السبر و الجمع البياني ذو الطابع الإحصائي لتوجهات و اهتمامات و خلفيات رواد الشبكة, كهدف غير معلن للشركات المشرفة على هذه المحركات... و من ورائها المؤسسات المخابراتية العالمية ؟.

إن الأسس البدائية التي كانت تعمل بها محركات البحث توحي بأن جمع تلك المعطيات كان يتم وفق أسس إحصائية " كمية " لا تراعي كثيرا – إما عن غفلة أو عن عجز في التقنية – التوجهات و الخلفيات المتشعبة أو الأكثر تعقيدا للجماهير المتصلة بالشبكة, فنحن نشعر بأن اعتماد المبدأ الثاني في طريقة عمل محرك البحث جاء ليسد هذه الطفرة, إذ يوحي بأنه مهما كانت أساليبه و أهدافه الإحصائية المتبعة, فقد صارت بشكل ما ذات طابع " نوعي ", و ذلك بتحليل العلاقات بين المواقع المستهدفة في البحث, و ربطها بخلفيات الشخص أو الأشخاص الذين يقومون بعملية البحث, و كلها تصب في بنوك المعلومات التي تشكل مستودعا حقيقيا للخطط الخام, ليس فقط ذات الطابع ألاستخباراتي و الأمني, التي تهدف إلى الوصول إلى التهديدات ذات الأنماط التصاعدية أو التنبؤ بها, بل و تتعداه إلى وضع القوانين المنبثقة عن هذه العمليات المرتبطة أساسا بتقدير درجة وعي فئات المجتمع على اختلافها, تجاه مختلف المسائل السياسية, الاجتماعية, الاقتصادية.....الخ, و هو ما يؤسس للقدرة على التنبؤ بسلوكياته و ردود أفعاله تجاه مسائل أو أحداث معينة مستقبلا, مما يجعل التعامل معه أكثر سلاسة و مرونة.

إن هذا النوع من الاختراق غير المعلن, يسمح في حقيقة الأمر بتطوير مستويات و أنماط جديدة من عمليات التدخل عبر الشبكة, لمواجهة أنواع التهديد الجديدة, التي أوجدتها الطبيعة الهلامية و المفتوحة لعالم الويب, و لكي نبسط هذا الأمر, نورد مثال هذا المقال بالذات, إذ أن البرمجيات التي تسير بها المدونات أو المنتديات التي سيظهر فيها مقالنا هذا, تحتوي في العادة على معاجم خاصة, فيها كل الكلمات أو العبارات التي تشير إلى المواضيع أو الأشياء, التي تدخل ضمن اهتمام و أهداف المؤسسات السرية التي تراقب الشبكة, و هذه المعاجم تتسم بتصنيفات معينة, منها ذات الطبيعة الأمنية مثلا, و التي في العادة ترصد كلمات او عبارات ذات مدلولات أمنية ككلمة " القاعدة " أو " الجماعة الفلانية المسلحة "....الخ, و منها ذات الطبيعة السياسية مثلا, و منها ما يدخل ضمن نظام مراقبة " وعي " الأشخاص و الجماعات تجاه الحقائق المرتبطة بما يُعرف بـ" نظرية المؤامرة ", فإن كان مقالنا هذا – على سبيل المثال لا الحصر – يدخل ضمن هذا التصنيف, فهو يضاف إلى مجموع كل المواد المنتشرة عبر الشبكة, و التي تخدم نفس الهدف, بحيث تقوم معالجات البيانات بحساب نسبة هذه المواد بمختلف لغاتها عبر الشبكة, و تقدير أعداد الأشخاص الذين يطالعونها مع توزيعهم الجغرافي, بل و ربما حساب النسب التقريبية للذين يمكن أن تترك في أنفسهم آثارا معينة, قد تشكل متاعب مستقبلية لخطط النخب, أي حساب و تقدير نسبة و درجات وعي المجتمعات تجاه مثل هذه المسائل وفق خصوصيات كل مجتمع و ظروفه الحالية و خلفياته المختلفة....الخ.

و لمواجهة هذه التهديدات المحتملة, لا يكون الرد عليها بالحذف أو التشويه أو ما شابه, بل بطرق اكثر سلاسة و هدوء, فببساطة, إن كان مقالنا هذا يحمل درجة تهديد معتبرة, إذ أنه يفتح أعين القراء على مسألة مثيرة لم يكونوا على دراية بها من قبل, و من ثم تشكيل نوع من الوعي بحقيقة الوجه الآخر للشبكة العنكبوتية, فإن اللازم – من منظور إحصائي – هو مواجهة هذا النوع من المقالات بعشر مقالات أخرى تتحدث في نفس الموضوع, لكنها تتضمن قراءات و مضامين ذات طبيعة التباسية و مشوشة, تربك العقل الباحث عن الحقيقة, و الذي قد يضيع في بحثه ذاك, إذ تتم زحزحته منهجيا عن الطرق الصحيحة و يتم تحييده في النهاية, فيجد نفسه على الهامش, و تكون محصِّلته هي معلومة واحدة صحيحة و تسع يلفهن التعتيم و اللبس, و هكذا يكون عقلا غير مؤثر.

هذا دون الحديث عن أخبار و صور نجوم كرة القدم و فضائح نجمات الغناء و ما شابه ذلك, التي تفيض بها الشبكة, و الموجهة أساسا إلى السواد الأعظم من الجماهير التي تم تشكيل وعيها لامتلاك الإرادة " المسبقة " في عدم معرفة شيء قد يضر مشروع العولمة بشكل جاد. لذلك نفهم الآن لماذا لا يمكن إطلاقا للمواقع و المواد ذات المضامين الهادفة أو المفيدة التي تنتشر عبر الشبكة, أن تكون أكثر من نظيراتها ذات الطبيعة المشوشة أو المربكة,  و هذا دون الحديث عن استحالة تغلب المواد الجادة و الترفيه الهادف على المواد السخيفة و الترفيه الهابط في الانترنت, و هذه السياسات لم يكن لها لترسم لولا المعطيات و البيانات الإحصائية, التي تقدمها محركات البحث لصناع القرار و المخططين الكبار بانتظام.

و تبرز مسألة اختراق حواسيبنا و عقولنا من طرف محركات البحث, فيما كان الناشط الأمريكي "Eli Pariser   " قد أشار إليه, و هو الجوانب السلبية " الخفية " التي تخلقها المبادئ اللغرتمية ( الخوارزمية ) غير الواضحة التي يسير بها غوغل و غالبية المواقع الكبرى, و التي لا تزال تحاط بكثير من التكتم من طرف مدراء هذه الشركات, فقد أورد هذا الناشط أن غوغل يحتوي على ما يشبه برنامج تعقب, يستطيع رصد 57 إشارة منذ اللحظة التي يدخل فيها الشخص إلى المحرك بحثا عن أي شيء, و من بين تلك الإشارات نذكر مثلا موقع الشخص أو المكان الذي يجلس فيه و نوع جهاز الحاسوب الذي يستخدمه, إضافة إلى المعلومات التي يبحث عنها, بحيث يتم تسجيل كل ذلك من طرف الموقع ليتم لاحقا " شخصنة " صفحة المستعمل على غوغل, إذ يصبح له صفحته الخاصة, التي تجعله يرى معلومات و يصل إلى روابط تختلف عما يظهر لدى الآخرين, و هنا مكمن اللغز. فلماذا تسلك محركات البحث هذه السلوكيات اللغرتمية الانتقائية, فتُصمم لكل شخص ما يراه على الشبكة وفق مقاسه الفكري و المزاجي و توجهاته الخاصة و من دون علمه, بدل التعامل مع جميع مستخدمي الانترنت بشفافية كاملة, و إفساح الفرصة للجميع للحصول على كل الخيارات البحثية المتوفرة, رغم الموضوعية التي قد تظهر بها الحجج المقدمة لمواجهة هذا السؤال, و المتعلقة أساسا بأهداف تسهيل عمليات البحث و جعلها أكثر فعالية.

يُطلق Pariser   على هذه الظاهرة اسم " الفقاعة المصفاة "The Filter Bubble  ", و قد ظهر هذا المفهوم بعد أن اكتشف خبراء الإعلام الآلي و الويب أن أشخاصا كثرا عبر الكوكب, يبحثون عن معلومة واحدة في وقت واحد, لكن كل واحد منهم يحصل على نتائج مختلفة ( كما و نوعا )عما تحصل عليه البقية, و ذلك يعتمد على أنماط السلوك التي يعتمدها كل واحد منهم في الشبكة, و التي ترسمها الأرضيات البيانية لمحركات البحث, بحيث يصبح المبدأ الخفي الذي تعمل به هذه البرمجيات مع مرور الوقت هو " عزل " كل شخص في فضاء الانترنت الخاص به ( فقاعته الخاصة ), في حين تعمل محركات البحث كمصفاة تحدد ما يراه و ما لا يراه خلال إبحاره عبر الشبكة, و فيما يظن أنه يتشارك مع الملايين في هذا الفضاء الديمقراطي الرقمي, و في الفرص المتكافئة في قدرة الولوج إلى المعلومات و الوصول إلى المعارف, فإن تلك المعلومات و الحقائق إنما يكون قد وصل إليها لوحده, و ستظل خاصة به ما لم يقم بتقاسمها و مشاركتها مع معارفه على الأقل, لآن تقاسمها مع جميع رواد الشبكة يبدو أمرا مستحيلا تقنيا.

و يذهب الناشط الأمريكي السالف الذكر مع كثير من المهتمين و الباحثين أبعد من ذلك, في تفسير سلوك الشبكة العالمية في مجال الإعلام و الأخبار و الاتصال الرقمي, إذ يخلصون إلى أن الانترنت, و إن كان في الظاهر يبدو كعالم لا تحده الحدود, أين يشترك جميع رواده في فرص الوصول إلى المعلومات و الأخبار و المعارف, إنما في الحقيقة هو عالم – و عن طريق محركات البحث – يعمل بشكل من الأشكال من أجل أن يعزل كل شخص عن البقية, خلف جدار رقمي مُصمم وفق ما يعتقد هذا الشخص بأنه الحقيقة, و الأمر ليس بالتعقيد الذي قد يراه البعض, فببساطة, فإن محركات البحث تقوم على نفس المبدأ الذي تعمل وفقه وسائل الإعلام و الاتصال الأخرى, الخاضعة لسيطرة النخب و خاصة في الغرب, و هو أن يُقدم للجماهير ما ترغب في رؤيته أو معرفته و ليس بالضرورة ما هي " في حاجة " لرؤيته و معرفته, و بما أن السواد الأعظم من هذه الجماهير قد تمت تربيته ليتوجه بإدراكه دوما نحو الهوامش الضيقة, و الانشغال بتوافه العصر باسم التحضر و الانفتاح..., فإن خدمة المحركات بصدد إعطائه ذلك و تحقيقه له, و من ثم فهي بصدد صياغة و تعزيز قيمه و تصوراته و موازين تفكيره في آخر المطاف, و جعلها في النهاية لا تشكل اي تهديد للتصورات النهائية للكبار, حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها المجتمع البشري في هذا القرن الجديد.

إن التفكير في هذه الحقيقة يجعلنا نرى أن الخدمات التي تقدمها لنا محركات البحث و لواحقها لا يقابلها الاختراق شبه المؤكد لبياناتنا و أجهزة الإعلام الآلي الخاصة بنا فحسب, و الذي يحمل الطابع الأمني أو الاستخباراتي, الذي تحاول النخب العالمية اليوم جعلنا نعتقد بأنه العنصر الوحيد الموضوع في الرواق الخلفي للانترنت و الويب, بل قد يظهر أيضا من خلال ذلك التغيير الذي قد تحدثه محركات البحث في مستويات تفكيرنا و إدراكنا للأشياء, إذا تركنا لها تلك الفسحة التي تمكنها من التحكم في تصميم ذلك الجزء الصغير, الذي قد نراه و ندركه على أنه صورة كاملة, بينما هو في الحقيقة مجرد جزء من أحجية أكبر بكثير مما نتصور.

و هكذا نصل إلى ما كنا قد أشرنا إليه في البداية, و هو أن السعي كله منصب على الوصول و التحكم في البوابات التي تمر عبرها كل أشكال المعلومات و المعارف, إذ أن الحصول على القدرة على تقنين عملها أو تنميط طرق سيرها وفق ما تقتضيه مصالح و خطط الأقلية النافذة, قد يعني بالضرورة ترك بصمة أخرى في عمليات صياغة وعي الجماهير, أو كما يسمونها هم " بالحشود ", و محاولة تركها دوما تحت أشكال و مستويات مختلفة من الرقابة و السيطرة, و التأكد من أنها بعيدة عن الحقيقة, بل و جعل تلك الأقلية التي تصل إلى الحقيقة معزولة, مشتتة, و غير قادرة على إحداث الفرق. و خلاصة القول هي أن عالم الانترنت و الويب و إن لم يكن هو نفسه العين التي ترى كل شيء, فلا بد من عمل المستحيل لجعله كذلك في فلسفة قادة النظام العالمي الجديد.

--------------

علاوه أمير فنور 

Partager cet article
Repost0
20 octobre 2011 4 20 /10 /octobre /2011 23:03

ici-on-noie-les-algeriens-17-oc-copie-1.jpg

دماء على أرصفة باريس

الجو بارد و كئيب تلفه سحب رمادية كانت قد غطت على مغيب شمس هذا الثلاثاء المشحون و المضطرب, لعلي كنت أضخم الأحداث في رأسي و المبالغة في القلق و التشاؤم. لا أدري   !  . لكنني كنت أعي جيدا أن الأمر جلل و ستكون له تبعاته بشكل أو بآخر, بعد أن علمنا أن جميع سكان الضواحي سيشاركون في الحدث, و هو ما يعني أن الأمر يتعلق بعشرات الآلاف.

ماذا يمكن أن أقول عن نفسي ؟. لم أكن ذلك الشخص الذي يرى الأحداث من زاوية مستنيرة ملفوفة بلحاف المثالية التي كنا لوقت قريب نظن أنها لفت عقول ألائك الذين قلبوا الطاولة على فرنسا ذات الفاتح من نوفمبر 54, إلى درجة أعمت فيها بصائرهم, فقد ساد الظن لأشهر أو حتى لسنوات بأنهم كانوا مجموعة من المراهقين المجانين الذين أثرت فيهم ثورة الفن السابع التي اجتاحت حضارة هذا القرن, و ما حملته لنا من أفلام الغرب الأمريكي الرجولية و قصص المتمرد المكسيكي زاباطا. لكنهم و بعد سبع سنوات... يبدو أنهم كانوا على دراية تامة بما كانوا يفعلون منذ اليوم الأول و إلى غاية الآن. أما بالنسبة لي فلم أكن طيلة حياتي سوى شاب بلا هدف, بلا هوية, بلا طريق, و كغيري من ممن ينادونهم بالعرب, فقد وجدت نفسي بطريقة ما هنا في هذه البلاد التي قيل بأنها أرض الحرية و القانون, وجدت نفسي ضالا في عمق غيتوهات الأفارقة الشماليين تنهشني كل أنواع الآفات و العنف و العنصرية, تارة من طرف أبناء هذه البلاد و تارة من طرف أبناء جلدتي, من بني فروة الرأس المجعدة و البشرة السمراء الداكنة و الوجوه المكفهرة طيلة الوقت.

ما ظنناه أول مرة أعمال عنف في ما اكتشفت لاحقا أنه " بلدي الأصلي ", سمعنا أنه قد جاء إلى ما اكتشفت لاحقا كذلك أنه "أرض العدو الاستعماري". لم أكن قد سمعت في حياتي بهذه المصطلحات من قبل, لكن أشخاصا من بني جلدتي كانوا قد بدءوا في زيارة الضواحي و قرى القزدير الصغيرة التي كنا نعيش فيها كالجرذان بشكل منتظم و سري, ببدلاتهم الأوروبية الأنيقة, و محافظهم الجلدية المليئة بالأوراق و المستندات, لكن فجأة بات يُعرف ألائك الأشخاص بفيدرالية الثورة في باريس, أو كما قيل لي ممن هم أذكى مني أنها يد الثورة داخل الأراضي الفرنسية.... مع مرور الأيام أدركنا أن هنالك فرقا حقيقيا و موجودا بين ما هو فرنسا و ما هو جزائر, و أن هنالك حربا ضروسا و حقيقية بين الطرفين   !!  , كان اكتشافا شبه متأخر حرك نوعا من القشعريرة في جسدي و تركني مشوش الفكر لأيام عديدة, لم أعرف خلالها أي شعور كان يجدر بي أن لا أنكره, أهو الشعور بالأسف الشديد على تضييعي لكل هذه الأعوام من الكفاح الذي شارك فيه عشرات الآلاف من الجزائريين, أم الشعور بذلك الفخر الغريب الذي لم أعشه يوما بعدما اكتشفته على أيدي مناضلي الفدرالية ؟.

في ذلك الجو البارد و بعد مغيب الشمس بلحظات, كان الحي القزديري يعرف حركة غير عادية. أشخاص من مختلف الأعمار, شباب, رجال, نساء, فتيات و حتى أطفال, كانوا قد احتشدوا استعدادا لانطلاق تلك المسيرة السلمية التي كانت جبهة التحرير قد دعت إليها, لرد سلمي و متحضر على قانون حضر التجوال العنصري الذي فرضته الإدارة الفرنسية على الجزائريين دون سواهم.

لقد وقفت بالقرب من بعض الشباب الذين ألتقي بهم يوميا في مصانع الكدح و الاستعباد. كان كل واحد منهم قد ارتدى أرقى ما عنده من لباس, استجابة لنداء مناضلي الجبهة, الذين حثوا جميع المشاركين بالحرص على أن يكون هندامهم محترما ليلة المظاهرة, ليعطوا صورة مشرفة للمهاجر الجزائري وسط باريس التي تعج بالأوروبيين من مختلف الجنسيات, و ليقينهم أن الصحافة ستكون حاضرة و ستنقل صور المهاجرين الجزائريين, الذين خرجوا للمطالبة بالمساواة على أرض الحرية و الأخوة و المساواة.

لقد انطلقنا و نحن نتجه سيرا إلى شوارع باريس الرئيسية حسب مسارات كانت قد حُددت سلفا من طرف المنظمين. لقد كنا بضع مئات من الأشخاص, لكن الأخبار كانت ترد بأن سكان جميع الغيطوهات الجزائرية و الضواحي الفقيرة في العاصمة, كانوا يسيرون في تلك الأثناء كل حسب مساره المحدد للوصول إلى نقاط الالتقاء ثم الزحف نحو قلب العاصمة. لقد كنت أسير وسط الحشد الذي تعالت من تحته أصوات الأحذية التي كانت تخط طريقا جماعيا كما لم يحدث مع جزائريي فرنسا من قبل. كنت أنظر من حولي فأرى البعض و هم يتبادلون أطراف الحديث حول هذا الحدث, و ما سيتركه في الإعلام الفرنسي و الرأي العام الدولي, الذي كان في تلك الفترة قد بدأ يكتشف هذه الحرب العنيفة بيننا و بين هؤلاء, و ما شد انتباهي هو وشوشة النسوة و أحاديثهن حول أمور السياسة, ربما كانت أول مرة أسمع فيها امرأة جزائرية تتحدث عن الحكومة الفرنسية أو عن الفظاعة التي يرتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر, كانت أول مرة كذلك أسمع فيها القصص عن ذلك الشاب الذي كان أحد مفجري الثورة, و الذي قاد معركة الجزائر العاصمة الدموية, و الذي كانت نهايته تحت التعذيب الوحشي, دون أن يُعلن استلامه أو أسفه أو يطلب العفو من هؤلاء الذين خدعونا طيلة هذه السنوات بكذبة أن بلدنا جزء من فرنسا و أننا فرنسيون   !  .

كانت أجواء لم أعش مثلها من قبل. ثم خطر ببالي و أنا أرى حشدنا و هو يلتقي بحشود أخرى على الطريق, بأن هنالك هدفا آخر قد حققه منظمو الحدث, سواء عن قصد أو عن غير قصد, و هو أن نعيش هذا الجو من الشعور بالتلاحم و الإتحاد الذي لم نعشه منذ أن وطئت أقدامنا هذه الأرض الباردة, عندما جاءت البواخر محملة بآبائنا قبل أن نلحق بهم و نحن صبية صغار سنوات الثلاثينيات و الأربعينات كقطعان الغنم, لتصنع منا حكومة هذا البلد جيش عبيدها, الذي يحوِّل مسروقات بلده الأم إلى مواد مصنعة في مصانع فرنسا التي تحظى بأضعاف القيمة, و نحظى نحن فقط بفتات الموائد الأوروبية, رغم أن الخير خير تلالنا و صحارينا, و العرق عرق جباهنا و ظهورنا...

أفكار كثيرة كانت تتزاحم في رأسي, كانت في مجملها استنتاجات متأخرة كنت استلهمها من أحاديث الناس من حولي و أنا أسير وسط الحشد الذي تحول إلى حشود جرارة, أفكار كانت تزيد في درجة غليان شيء بداخلي, كان مزيجا من الحنق و الإحساس بالشفقة على الذات لأني أكتشف كل هذا لأول مرة, و أكتشف إلى أي درجة استغلت فرنسا حياتي و سذاجتي كما استغلت حياة و سذاجة الآلاف مثلي, إلى أي درجة استغلت جهلي و جهل أبي. انتابني إحساس عميق بالتقزز. لقد كان ألائك الشباب الذين فجروا هذه الثورة على حق, فعلا كانوا على حق   !  .

كنا نلمح أضواء باريس الأنيقة و الصاخبة و هي تزداد وهجا من خلف الأشجار و الجسور التي كانت تقطع نهر السين, و بمجرد أن بدأنا في التوغل إلى أحياء باريس الراقية, كان عددنا قد صار هائلا حتى أن معظمنا لم يصدق ذلك. لقد كانوا بالآلاف و من مختلف الأعمار, بل و قد انضم إلينا بعض المتعاطفين مع الثورة من فرنسيين يمثلون اليسار إلى جانب بعض التونسيين و المغاربة. بدأت الصيحات الجماعية ترتفع و هي تنادي بالحق في المساواة تارة و تندد بقانون الحضر العنصري تارة أخرى, و بين هذا و ذاك تعالت صيحات تمجد الجزائر و تنادي باستقلالها. رأيت في تلك الأثناء الأطفال الصغار و هم يصيحون مشاركين الجميع و هم يبتسمون و قد اكتست علامات الإثارة وجوههم, و هم يخبرون هذه التجربة لأول مرة بكل براءتهم و عنفوانهم كمن يعيش فرحة العيد, ليس لمعانيه الحقيقية بل لكونه يوم ليس كباقي الأيام, تماما كانت حالة هؤلاء الأطفال, فقد كانوا يشعرون بالإثارة, فقط لأن الحدث استثنائي دون أن يفهموا بالضرورة مضامينه الفلسفية العميقة, لكن كان من المهم إشراكهم في هذا الأمر حتى يوضع حد للجهل و الأمية السياسية التي عشناها نحن قبل أن يكتشف أكثرنا حقيقتها في أرذل العمر.

لقد رفعت اليافطات و الأعلام الجزائرية التي خيطت بأيادي نساء الغيطوهات. لم تكن تلك الأعلام متطابقة بشكل دقيق مع بعضها البعض لكنها كانت تحمل نفس الرسالة و ذلك كان كافيا. أما اليافطات فقد حملت عبارات تندد بالعنصرية و تمجد الوطن, و هكذا سرنا بها إلى قلب العاصمة و قد تعالت هتافاتنا و دوّت في أنحاء الشوارع, في حين تجمع الأوروبيون على شرفات منازلهم و عماراتهم و هم يتفرجون على تلك الحشود و هي تزحف على جادة "الكونكورد" الراقية. هناك أين بدأتُ ألاحظ أن الحركة تتبطاء شيئا فشيئا, إلى أن توقفت المسيرة لسبب ما, و معها تضاءل عدد الصيحات و الهتاف و حل مكانه وشوشات بين الأشخاص. سألتُ بعض الشباب عن سبب توقف المسيرة فقال أحدهم أن هنالك عدد هائل من رجال الشرطة قد أغلقوا الطريق أمام الحشد, فمررت بصعوبة بين الحشد نحو إحدى الأشجار المصطفة على حافة الطريق و تسلقتها بخفة, حينها رأيت مقدمة الحشد و هي تقف صفا واحدا مقابلة ما يمكن أن أصفه جيشا من رجال الشرطة المسلحين بالعصي و الهراوات و البنادق الرشاشة. ملامح وجوههم لم تكن تدل على أنهم جاؤوا ليقفوا على الحياد, فقد سمعنا أن قائدهم " موريس بابون " كان أحد الموقعين على قرار حضر التجول ؟. ثم سمعت صيحات متفرقة هنا و هناك وسط الحشد... " تحيا الجزائر  !" لتليها صيحات أخرى و أخرى, إذ راح الصياح يعلو و يتضاعف إلى أن ضج الحشد بالصراخ مطلِقا عبارات المجد للوطن, آلاف الحناجر كانت تصيح بصوت رجل واحد و كان صداها يتضارب بين عمارات باريس. و بينما أنا أراقب ما يحدث متشبثا بأغصان الشجرة فإذا بي أسمع شيئا وسط تلك الضوضاء يشبه الصافرة, و إذا بتلك الصفوف المتلاحمة من رجال بابون تهجم كموجة سوداء على مقدمة الحشد الجزائري.

كانت بضع ثوان كافية ليجد العشرات الذين كانوا في المقدمة أنفسهم تحت هراوات و أحذية البوليس الذي انهال بالضرب العنيف على الرؤوس و الوجوه و الأكتاف و الظهور و الأطراف... لا يهم !. لكنني وجدت نفسي و من دون وعي أصيح في الناس الذين كانوا من تحتي:" الأطفال...الأطفال !! ". ففهمتني النسوة سريعا عكس الرجال, و راحت كل واحدة تحمل صغيرها بين ذراعيها أو تمسك بيده و الكل يتدافع إلى الخلف, بينما لم يتحرك البعض و راحوا يحاولون اقتناص النظر وسط الجمع الهارب عسى أن يروا ما يحدث في المقدمة, لكن الأمر لم يطل, فقد جاءت أصوات إطلاق النار لتجعل الجميع ينبطح أرضا لوهلة عندما ارتفعت صرخات بعض النساء.

قفزتُ من على الشجرة و أنا أسمع رجلا يحدث ابنه الذي كان يبكي و يصرخ, إذ راح الأب يقول:" إنهم يطلقون الرصاص في السماء حتى يخيفوننا لا أكثر...لا عليك بني ". فشددته بقوة من ذراعه و أنا أخبره بأن يفر بابنه فورا, لأني رأيت للتو أشخاصا يسقطون في المقدمة برصاص حي و مصوب بعناية, فنظر الرجل إليّ للحظة, ثم حمل الصبي بين ذراعيه و انضم مهروِلا إلى الكوكبة الهاربة و المتدافعة في أي اتجاه ليس فيه رجال بالزي الشتوي الأسود و الخوذات التي تلمع تحت ضوء أعمدة الإنارة, لكن الأمر كان صعبا, فقد امتلأت الشوارع و الممرات بهم إذ كانوا يخرجون من جميع الاتجاهات كالنمل, ليزيدوا من حالة الرعب الهستيري و التدافع الذي سحق البعض تحت الأقدام و تركهم يتمرغون على الأرض من الألم و الإصابات, فقد راح رجال بابون يطاردون الجميع ليس بنية التوقيف فحسب, بل بنية الضرب المبرح و كأن بهم يريدون أن ينقلوا إلينا رسالة المسئولين الفرنسيس... كانت رسالة واضحة جدا.

كنت أركض مع الجميع محاولا تفادي ضربات العصي و أنا أسمع بين الفينة و الأخرى طلقات رصاص متقطعة, و في أحيان أخرى أسمع أصوات ضباط الشرطة المنطلقة من مكبرات الصوت لكنني لم أكن أعي جيدا ما كانوا يقولون, بسبب تصاعد الصياح من الفارين و صراخ الألم من المصابين الذين سقطوا هنا و هناك. لكنني استطعت الدخول إلى أحد الزقاق الفرعية التي لفها نوع من الهدوء و الصمت, و كنت لا أزال أسمع الصراخ و العويل و أصوات صافرات سيارات الشرطة من خلف المباني المطلة على نهر السين. لم أفكر كثيرا في هذا الكلَب الفرنسي الذي لم يتوقعه حتى أكثر المتشائمين برد فعل الفرنسيين تجاهنا, لأنني رحت أبحث عن أي ممر آمن للخروج من هذه المدينة ذات الوجه الرومانسي و الحقيقة المتوحشة, و العودة إلى قريتي القزديرية و كوخي القذر.

 التقطت أنفاسي و خرجت من ذلك الزقاق أسير بمحاذاة الجدران ألتفت في جميع الاتجاهات, لكنني كنت كأنما أسمع شخصا ما يبكي بصوت مخنوق و خافت بالقرب من أحد مكبات النفاية و أنا أقترب منه. لقد كان رجلا يناهز الخمسين من العمر ممدا بين أكياس الزبالة و هو يحاول كبت صرخات ألم ساقه التي بدت مكسورة حتى لا يسمعه رجال الخوذات, فتقدمت إليه بحذر و لم يدر بيننا أي حديث, بل رحت فقط أساعده على الوقوف. و بينما أنا كذلك فإذا بي أسمع أصوات أحذية و هي تضرب الأرض بقوة تقترب مني مسرعة ففهمت كل شيء, و أنا ألتفت خلفي سمعت عبارة واحدة... " fils de pute ! " و إذا بالعصي و الهراوات تنزل عليّ متتالية, حدث ذلك بسرعة غريبة و الأكثر غرابة هو أن الهلع الذي أصابني قبل أن تصل تلك الضربات إليّ كان قد اختفى تماما و أنا أتلقاها, فكل ما كنت أفكر فيه في تلك الأثناء هو حماية رأسي و وجهي. كنت منكبا على الأرض مقابلا إياهم بظهري, تماما كما اعتدت على ذلك منذ نعومة أظافري أمام ركلات أبي و ضربه المبرح عندما كنت أقترف أي شيء يثير غضبه. لكن أحدهم حاول قلبي على جنبي بركلة قوية حتى يتمكنوا من الوصول إلى وجهي, لكنني كنت ألف رأسي بذراعيّ, كنت أنظر إلى أرضية الرصيف المبتل بزخات المطر, و إذا بي ألمح زخات أخرى ذات لون أحمر قان و هي تختلط بقطرات المطر, تلاها ألم مبرح ممتزج ببرد شديد أصاب أصابع يدي, فأدركت أن عظامها إنما كانت تُسحق و تتفتت تحت ضربات العصي الخشبية فوجدت نفسي أصرخ بأعلى صوتي من الألم الذي لا يوصف.

تم جري رفقة ذلك الكهل المسكين الذي نال موجة أخرى من الضرب المبرح رغم حاله المزرية, و لم ألمح سوى دمائنا التي لونت ذلك الرصيف و هي تتسرب ببطء تحت نفايات الأوروبيين. و نحن نُقتاد إلى الشارع الرئيسي واضعين أيدينا فوق رأسينا لمحت مئات الجزائريين و قد تم حصارهم في الزاوية, بعدما طوقهم رجال البوليس و هم يشيرون إلى الجميع بأن يبقوا أيديهم فوق رؤوسهم. و بعد الوقوف تحت ذلك البرد القارص لنحو ساعة, جاءت الحافلات التي حملتنا و سارت عابرة تلك الشوارع التي لم تستعد هدوءها بشكل كامل. كنت أجلس بالقرب من النافذة و قد فقدت الإحساس بأصابع يدي تماما, كنت أتفرج على تلك البقع من الدماء التي كانت تغطي الأرصفة و الطرقات مع بعض الأشياء المتناثرة, قبعات, أحذية, يافطات... هكذا كان رد دولة الديمقراطية على مسيرة سلمية مليئة بالنساء و الأطفال !. لم أكن أعلم إلى أين يتم أخذنا في تلك اللحظات أو ماذا سيحل بنا, بعدما سمعت شابا و هو يتحدث بصوت منخفض عن عمليات إعدام يتم تنفيذها في تلك الأثناء من على جسور السين, كان جسده يرتعش بشدة و هو ينظر إلى الجميع و يضحك بشكل هستيري و يقول:" إنها نهايتنا....إنها نهايتنا جميعا أيها الأوغاد... تبا لجبهة التحرير التي ورطتني في هذا !!".

بالنسبة لي فقد أدركت حينها أنني نزفت من أجل نيل حقوقي لا أكثر, و أظنه كان شعور متقاسما بين الأغلبية. و بقدر ما كان الألم يلف أطراف جسدي و أضلعي, عشت إحساسا غريبا من السعادة و الفخر ينمو من تحته, تماما كما تنمو البراعم الخضراء الصغيرة من تحت رماد الغابات المحترقة, فقد كنت أعي أنني كنت أولد من جديد, و سواء كانت نهايتي الليلة غريقا في نهر السين أو سجينا منسيا في سجون فرنسا حقوق الإنسان إلى حين, فإنني لن أحزن و لن أندم على ما فعلت هذه الليلة, فقد كنت طيلة حياتي سجينا و ميتا, لكن ليس بعد اليوم, فهذا كان أقل شيء قدمته من أجل ذلك الشيء الذي يترك لذة مُسكرة في النفوس كلما فكر فيه المرء بتأن..." الحرية ".

----------------------------------------------

في ليلة 17 أكتوبر 1961 خرج أكثر من عشرين ألف جزائري في شوارع باريس في مسيرة سلمية, دعت إليها جبهة التحرير الوطني, احتجاجا على قانون منع التجول العنصري الذي فرضته الإدارة الفرنسية عليهم. لكن شرطة باريس و بأوامر محافظها موريس بابون ردت بشكل غاية في العنف و الهمجية.

 

أدت المواجهات و المطاردات إلى سقوط بضع مئات من الشهداء و آلاف الجرحى و المعتقلين الجزائرييين, و تطابقت شهادات تاريخية على وقوع عمليات تعذيب في مراكز الشرطة و إعدام بالجملة من على جسور نهر السين الذي ألقي فيه العشرات من الجزائريين.

 

يُعتبر هذا التاريخ يوما وطنيا للهجرة في الجزائر المستقلة. 

 

 


 
Partager cet article
Repost0
10 septembre 2011 6 10 /09 /septembre /2011 15:04

ist2_10093909-manga-emoticons-1-.jpg

ما الانفعال ؟.

منذ تأسيس أول مخبر لعلم النفس في ألمانيا العام 1879م على يد " ويليام فونت W.Wundt  " و علماء النفس يحاولون جاهدين الكشف عن أعمق حقائق النفس البشرية, من أجل الوصول إلى شروح وافية لمختلف الظواهر النفسية و العقلية التي تقوم عليها سلوكيات الإنسان, سواء كانت تلك الظواهر سوية أو شاذة.

و اليوم, و بعد مرور مائة و ثلاثين عاما على قيام علم النفس كعلم مستقل, ظهرت مذاهب و نظريات كثيرة و كبيرة ساهمت كل منها – طيلة تلك المراحل التاريخية – في إضافة لبنات جديدة إلى سرح هذا العلم, ما فتئت كل لبنة منها تساهم نسبيا في تحقيق الفتح العلمي تلوَ الآخر فيما يخص حقائق النفس و العقل البشري.فكانت متفقة على رؤية واحدة تارة, و كانت متناقضة و متواجه    تارة أخرى. إلا أن الحقيقة هي أن كل منها قد ساهم بشكل من الأشكال في تعديل نظرة علماء النفس و الاجتماع إلى الكائن البشري,و ألهمتهم المزيد من أساليب البحث و الدراسة و الاستقصاء و التفسير.

و قد ظهر علم النفس المعرفي أو ما يُعرف بالمذهب المعرفي في عقد السبعينيات من القرن الماضي,تماشيا مع فكر " الرواقيين " ( آخر فلاسفة اليونان القديمة ), الذين أكدوا على أن الناس لا يضطربون بسبب الأحداث في حد ذاتها, بل يضطربون بسبب الأفكار المتعلقة بتلك الأحداث. و هكذا قام هذا المذهب على فكرة دراسة حالات الناس العادية أو المضطربة انطلاقا من مفاهيمهم الخاصة المختزنة في عقولهم حول الذات و الحياة و الأحداث التي تربط بينهما.

و هكذا فقد أخذ علم النفس المعرفي دراسة السلوك انطلاقا مما يختزنه العقل من أفكار و تجارب,و هو ما فتح الباب على مصراعيه لربط علم النفس بعلم الأعصاب, مما أسفر عن فتوحات جديدة و مذهلة جعلت هذا العلم يتقدم بعشرات الخطوات الإضافية إلى الأمام.

و قد لا نبالغ إن قلنا أن موضوع الذكاء كان الموضوع الأكثر تناولا في علم النفس, سواء قديما أو حديثا. إلا أن علم النفس المعرفي قد أخذ على عاتقه دراسة الذكاء الإنساني من وجهة نظر وفّقت بين الجانب النفسي-الانفعالي و بين الجانب العصبي, حين بدأ بعض علماء النفس يرون أن معامل الذكاء (I.Q  ) لم يعد كافيا ليثبت ذكاء الأفراد إلى حد اعتباره كمعيار للنجاح, فكم من فرد يحقق معدلات نجاح مرتفعة في التحصيل الدراسي أو الأكاديمي, و لكنه غير سعيد و غير ناجح في جانب الحياة الشخصية و العلاقات الاجتماعية على اختلافها. بينما يُحقق أشخاص آخرون نجاحات باهرة في مختلف مناحي حياتهم و يحصلون على السعادة و الرضا رغم أن مستواهم الأكاديمي محدود, و معامل ذكائهم ليس بتلك القوة أو الارتفاع. و هكذا بدأ العلماء يفترضون وجود أشكال أخرى للذكاء أكثر تعقيدا من أن يتم حصرها في جانب التحصيل الدراسي أو الأداء على اختبارات و مقاييس الذكاء الكلاسيكية التي وُضعت في بدايات و أواسط القرن الماضي.هذا إذا أردنا اعتبار الذكاء قدرة أو سمة ضرورية تستعمل كأداة لتحقيق السعادة الشخصية و النجاح اللازم في الحياة.

و قد كان العام 1983 نقطة تحول هامة في دراسة الذكاء, عندما اقترح " هاورد جاردنر Gardner   " نظريته عن الذكاءات المتعددة,التي فتحت الطريق لدراسة أعمق لما عُرف آنذاك بالذكاء الاجتماعي,الذي أشار إليه السيكولوجي المصري الراحل "فؤاد أبو حطب ",الذي مهد الطريق لظهور مصطلح أقل ما يوصف به أنه " ثوري ", بعد أن تمكن به علم النفس من تحقيق قفزة عملاقة في مجال البحث النفسي و الطبي – العصبي, و هو مفهوم " الذكاء الانفعالي Imotional intelligence   " الذي جاء به سيكلوجيون أمريكان سنوات التسعينات, كاقتراح أكاديمي لمواجهة المشاكل الانفعالية العويصة التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة, و قد كان في مقدمة هؤلاء النفساني الكاتب " دانيل جولمان D.Goleman   ". فما هو هذا المفهوم و ما هي أهم أسسه و طبيعته و نظرياته و آثاره في حياتنا.... ؟.

قبل الغوص في هذا الموضوع لا بأس من طرح سؤالين: ما هو الانفعال و ما هي وظيفته ؟   !  . سؤالان قد يتيه معظم الناس من العامة في الإجابة عنهما, فيقولون أن الانفعال هو الإحساس, فما هو الإحساس إذن ؟. فيقولون أنه المشاعر, فما المشاعر ؟. فيقولون هي العواطف. فما هي العواطف ؟.... أما وظيفتها فحدث و لا حرج.

إن وضع تعريف واضح لماهية الانفعالات و فهم طبيعة وجودها في حياتنا يستدعي وضع المصطلح في سياقه الطبيعي العام, خاصة عندما نفهم أن كل الخبرات الانفعالية و العاطفية التي نعيشها تحدث دوما في سياق متكامل, حيث تشترك في صنعه كل من الحالة الذهنية و الانفعالية و الفسيولوجية التي تشكل معا ما يُعرف بالاستجابة لحدث ما, إما داخلي ( كالمرض مثلا ) أو خارجي يرتبط بالمحيط الاجتماعي و البيئة التي يعيش فيها الفرد. هذا من جهة.

من جهة ثانية, لا بد أن نوضح أن هنالك فرقا بين مصطلحي الانفعال و العاطفة, فالإنفعال يكون أسرع من العاطفة في الحدوث, إذ يعتبر كرد فعل طارئ لحدث أو موقف أو فكرة ما, و هو أسرع في الزوال. أما العاطفة فهي تلك الحالة الثابتة نسبيا و المرتبطة باتجاهاتنا و انطباعاتنا تجاه مواقف أو أحداث أو أشخاص بعينهم, و يمكن أن تكون العاطفة بذلك حالة تتشكل من تراكم و تكرار لانفعالات تنتج عن استجابات محددة.

كما يجب أن نفهم كذلك أن موضوع الاستجابات لا يحدث دوما في سياق أحادي أو خطي ( أ- ب – ج ), لكنه أدق و أعقد من ذلك بكثير. فتكفي فكرة واحدة و لو كانت صغيرة تمر على وعي الفرد حتى تؤسس لشبكة طويلة من الاستجابات الانفعالية المعقدة, التي قد تأخذ منحنى تصاعدي ينتهي في أقوى الحالات ليثير ردات الفعل ذات الطابع الجسماني كالتعرق أو الارتعاش. فهنا نجد ذلك التداخل المعقد و التأثير المتبادل بين الانفعالات و الأفكار و الجسم. فأحيانا يسبق الانفعال و تليه الفكرة ثم تأتي استجابة الجسد كالخوف من شيء غير واضح, و أحيانا تكون الفكرة ثم يليها الانفعال فردة فعل الجسد, كرؤية شيء مقزز, و في أحيان أخرى تأتي ردة فعل الجسم تجاه مثير خارجي لتليها الفكرة و ينتهي الأمر بالانفعال كالتعرض للسعة مفاجئة, فتكون ردة النخاع الشوكي اللاإرادية كالقفز مثلا, تليها الفكرة ( الوعي ) التي توضح أن الحادث هو عبارة عن لسعة نحلة, ليليها الانفعال الناتج عن الألم كالغضب مثلا..., و في كل حالة من هذه الحالات قد تحدث تفاعلات كثيرة و متشعبة بين الانفعال و العقل و الجسم و تصل لتترك أثرها في المحيط.

و هنا يجب أن نطرح السؤال الأنسب لفهم ماهية الانفعال: لماذا تحدث الانفعالات في حياتنا اليومية ؟.

إن التجارب و الأحداث المختلفة التي نمر بها طيلة حياتنا, و مهما كان نوعها أو طبيعتها, تحمل دوما قيمة ذات بعد انفعالي أو عاطفي معين, تمكن لنا من إعطاء أو إكساب معنى لذواتنا و حياتنا و لتلك الأحداث نفسها, و الظروف أو الأشخاص الذين يرتبطون بها, بحيث لا يمكن أن تتحول تلك التجارب على اختلافها –سواء كانت إيجابية أو سلبية – إلى ما يُعرف بالخبرة إن كانت منقوصة من نسبة و لو ضئيلة من المركب الانفعالي, الذي يضمن الحد الأدنى من التفاعل و التقييم و التعلم, و ذلك يبدأ منذ مرحلة الطفولة. فمثلا كيف للصبي الصغير أن يفهم أن سلوك تحطيم ممتلكات الآخرين و العبث بها هو سلوك غير مقبول اجتماعيا, إن لم يشعر بقدر معين من الخوف أو الذنب جراء التوبيخ الذي يتعرض له من طرف الأبوين, و الذي يدفعه للحذر مستقبلا في التعامل مع مقتنيات البيت ؟. و هو ما يقابله الشعور بالسعادة عندما يقابله أفراد الأسرة بالاحتضان و التقبيل في حال الإقدام على فعل يحمل قيمة اجتماعية إيجابية.... فهذه الانفعالات التي تصاحبنا منذ خبراتنا الطفولية الأولية ( قبل نضجنا الفكري ) تكون بمثابة البوصلة المرشدة لنا في تحديد توجهاتنا نحو ذواتنا و اكتشاف القيم الأخلاقية للمحيط الذي نحيا فيه,هذا على المستوى التربوي.

أما على المستوى الاجتماعي فإن من وظائف الانفعالات في حياتنا الشخصية و الاجتماعية هي خلق التكيف و التوازن مع شكل أو طبيعة الأحداث التي نعيشها وسط جماعتنا. فالمرء لا يمكن أن يحقق اندماجا مثاليا في جماعته إن لم يكن متوافقا و متناغما معها على المستوى الانفعالي و العاطفي,و أبسط مثال على ذلك هو حالة الشخص العابس وسط حفلة بهيجة, أو حالة الشخص المرح وسط مأتم...,فهذا النوع من عدم التوافق الانفعالي وسط الجماعة يعد أحد مسببات الإقصاء و العزل عن المجتمع.

بل و يذهب علماء النفس و الأعصاب المعاصرون إلى تحديد أهم وظائف الانفعال في "الحفاظ على حياتنا و ووجودنا " كجنس بشري, بوصف المشاعر بـ " دوافع الأفعال " حسب جولمان, الذي يربط السياق الذي تحدث فيه الانفعالات بمختلف ردود الفعل التي من شأنها تجنيب الفرد المواقف الخطرة أو المهددة لسلامته. فمشاعر القلق و الخوف – حسب جولمان – هي الدافع إلى الحذر, و مشاعر الإعجاب و الانجذاب نحو الجنس الآخر هي الدافع للصداقة و التعاطف و الاقتران و الحماية و التكاثر, و مشاعر الحب الأبوي مثلا هي الدافع للعمل و التضحية من أجل مستقبل الأبناء ( الجيل التالي ). و هذه الحقيقة المتعلقة بتحريك العواطف للسلوك كان قد أشار إليها العالم " ماك دوجال Mc Dogal  " في بدايات القرن العشرين, عندما قال بأن "السلوك لا يندفع باعتبارات عقلية محضة, بل بالحب و الكره و الاهتمام و الحماس و المنافسة و غيرها من العواطف ".

لهذا نفهم أن الانفعالات تؤدي وظائف متنوعة في حياتنا,منها ما هو تكيفي و منها ما هو دفاعي و منها ما هو ارتقائي ( يسمو بالكائن البشري ). و يمكن تعريفها بشكل مبسّط على أنها " تلك الحالة التي تؤثر في الكائن الحي, و تصحبها تغيرات جسمية وظيفية داخلية,و مظاهر جسمانية خارجية غالبا ما تعبر عن نوع تلك الحالة نفسها, الهدف منها هو التكيف مع طبيعة المثير الذي يثير تلك الحالة, سواء كان إيجابيا أو سلبي, داخليا أو خارجي, طارئا أو غير طارئ, و التعامل معه بالشكل المناسب ".

 

.....يُتبع

Partager cet article
Repost0
10 septembre 2011 6 10 /09 /septembre /2011 14:58

RTEmagicP_bbd748c8fa-1-.jpg

جدلية العقل و الانفعال و الحل المقترح لإنهائها

" الحياة كوميديا لمن يُفكّرون, و تراجيديا لمن يشعرون "... بهذه الكلمات عبّر دانيل جولمان عن تلك الجدلية الطويلة و المستمرة بين من يقدسون العقل و يرون أنه المفتاح الوحيد للتحكم في زمام الأمور و مجريات حياة الأفراد و المجتمعات, و ألائك الذي يرون أن العواطف و الانفعالات هي مفتاح ذلك.

و الحقيقة هي أن كل التجارب الحياتية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن التطرف في الميل إلى أحد هاذين الطرفين ( العقل أو القلب ) على حساب الآخر, إنما هو فاتحة لمشاكل جمة من عدم التوافق النفسي و الاجتماعي للفرد. فكم من شخص حوّلته سلوكياته المبنية على التفكير العقلاني المحض إلى شخص فاتر العواطف يشبه الآلة الحاسبة, و انتهى به المطاف إلى تفكك صِلاته الاجتماعية بسبب نفور المحيطين به منه بسبب استحالة العيش بجانبه. و كم من شخص آخر صار عبدا ضعيفا لعواطفه و انفعالاته, إلى درجة أن التفكير العقلاني أو المنطقي لم يعد له وجود في حياته,مما جعل الحياة بجانبه مستحيلة كذلك بسبب سلوكياته الانفعالية المندفعة دوما بدون تفكير متأن نحو المجهول... نحو الانهيار.

و قد كان هناك مجال واسع للحديث عن التوفيق بين العقل و المشاعر في تسيير أمور الحياة, لكن الحقيقة أثبتت أن قلة من الناس يفلحون في خلق هذا التوافق,بينما يستمر الكثير منهم في حياة المد و الجزر في صراع القلب و العقل دون أن يفهموا جوهر هذا التجاذب,و هو السبب الأول في أنواع الإرهاق العصبي و القلق التي يعيشها الإنسان المعاصر.

هنا نصل إلى ما يُمكن اعتباره المفهوم الذي فتح الطريق واسعا لدراسة هذه العلاقة المتشابكة و المعقدة بين التفكير المنطقي الواعي, و بين طاقة المشاعر و الأحاسيس و الانفعالات. عندما بدأ علماء النفس المعرفي يشيرون إلى ألائك الأشخاص الذين يستطيعون التوفيق بين التفكير و الانفعال بشكل يمكنهم من النجاح في مختلف مناحي حياتهم, خاصة ما تعلق منها بجانب العلاقات الاجتماعية. و قد سُميت هذه القدرة بالذكاء الانفعالي, و تسمى أيضا بالذكاء العاطفي, و الذكاء الوجداني, و ذكاء المشاعر.

لقد كان الباحث " رووفين بارون R-Baron   " أول من وضع معامل الانفعالية Emotional Quotient   العام 1985, و وصف الذكاء الانفعالي بأنه " يُظهر قدرتنا على التعامل بنجاح مع مشاعرنا و مع الآخرين ". ثم جاء دانييل جولمان عام 1995 مقدما نموذجه النظري الشهير للذكاء الانفعالي, إذ عرف جولمان هذا النوع من الذكاء بأنه " مجموعة من المهارات الانفعالية و الاجتماعية التي يتمتع بها الفرد, و اللازمة للنجاح المهني و في شؤون الحياة الأخرى", ثم جاء بعده كل من " سالوفي و ماير Salovey & Mayer   " عام 1997 بتعريف آخر للذكاء الانفعالي يفيد بأنه: " القدرة على إدراك الانفعالات و فهمها و تنظيمها لتدعيم الترقي الانفعالي و العقلي ".

و على أساس ما تقدم, يمكن أن نعبر عن الذكاء الانفعالي بأنه نوع من القدرة التي تسمح للفرد بإدراك عواطفه أو انفعالاته حين حدوثها, و تقييمها تقييما دقيقا, لتسخيرها لصالح علاقته مع نفسه و مع الآخرين. إذ يتحقق على هذا المستوى ذلك الارتباط بين العقلين المفكر ( القشرة المخية ) و العاطفي ( المخ الحوفي ). فالقدرة على إدراك الانفعال و فهم نوعه و مدى عمقه و آثاره على سلوك الفرد, ثم استخدام هذه المعرفة في ضبط الانفعالات و السلوك و الأفكار الناتجة عنها لصالح صاحبها, بات يعتبر من أعظم قدرات الذكاء حاليا. فأذكى الأشخاص في عصرنا الحالي ليسوا من حملة الشهادات الأكاديمية الراقية من الجامعات الشهيرة بالضرورة, بل هم ألائك الذين يملكون القدرة العالية على فهم انفعالاتهم و عواطفهم,و يستخدمون ذلك الفهم الدقيق في توجيه تلك الأفكار و المشاعر للحصول على الراحة و الرضا على النفس و النجاح في العلاقات مع الآخرين.

فقد بين سالوفي أن مرتفعي الذكاء الانفعالي يُحتمل أن يكون لديهم القدرة على مراقبة انفعالاتهم و مشاعرهم, و التحكم فيها, و الحساسية لها, و تنظيم تلك الانفعالات وفق انفعالات و مشاعر الآخرين. و قد حدد مفهوم الذكاء الانفعالي في خمسة نقاط أو قدرات أساسية, لخصها السيكولوجي الجزائري " بشير معمرية " كالآتي:

-1 أن يعرف الفرد عواطفه و مشاعره.

-2 أن يتدبر الفرد أمر عواطفه و مشاعره.

-3 أن يدفع نفسه بنفسه, أي أن يكون مصدر دافعية لذاته.

-4 أن يتعرف على مشاعر الآخرين.

-5 أن يتدبّر أمر علاقاته بالآخرين.

هذا و قد قدم دانييل جولمان نموذجا نظريا مثيرا للاهتمام لخّص من خلاله القدرات الفرعية الأساسية التي يتشكل منها الذكاء العاطفي, و اللازمة للنجاح في الحياة الشخصية و في العلاقات الاجتماعية, إذ تشتمل على: معرفة الانفعالات, إدارة الانفعالات, تنظيم الانفعالات, التعاطف و أخيرا إدارة العلاقات.

إن الركيزة الأساسية في هذا النظام العقلي –الانفعالي هي معرفة الانفعالات وقت حدوثها و إعطائها التقييم المناسب لأثرها على سلوكنا,إذ يورد جولمان في هذا السياق أسطورة جميلة تدور حول محارب الساموراي الياباني الذي التقى ذات يوم برهبان و أراد أن يتحداه حول من أكثرهما دراية بمفهوم الجنة و النار.فنظر إليه الرهبان نظرة احتقار و هو يقول له بأنه لن يضيع وقته مع تافه مغفل مثل مقاتل ساموراي,فكان أن شعر المحارب بالإهانة الشديدة, فسحب سيفه من غمده و هو يصيح راكضا نحو الرهبان الذي ظل واقفا في مكانه بهدوء, و قبل أن يصل مصل السيف إلى رقبته صاح في الساموراي: هذه تماما هي النار. فتجمد المحارب في مكانه و قد أدرك أنه فعلا كان لقمة سائغة لانفعالاته, فشعر بالخجل الشديد و انحنى للرهبان معتذرا بشدة فعاد الرهبان و هو يقول: و هذه هي الجنة   !  .

إن الوعي بالانفعال في لحظة حدوثه يختلف كلية عن إدراكه بعد أن يقع السلوك الناتج عنه و يزول,إذ أن هذا الوعي هو الذي يصنع الفارق بين الإقدام على فعل أو سلوك متهور قد يجعل صاحبه يقع في دوامة الندم الطويل لاحقا,و بين ضبط النفس الذي يأتي عندما يستطيع الفرد التفريق بين ذلك الانفعال و بين ذاته نفسها,كأن يقول الشخص في لحظة غضب غامر من شخص ثان: هذه مشاعر الغضب و لستُ أنا الغضب.

فهذا النوع من الوعي – حسب جولمان – يؤدي وظيفة رقابية على انفعالات الفرد, وهو الذي يصدر الأحكام على المشاعر المختلفة على أنها جيدة أو سيئة, مقبولة أو مرفوضة, فإذا تمكن الفرد من تطوير هذه القدرة يكون قد وصل إلى جوهر ما دعى إليه سقرلط عندما قال: " اعرف نفسك بنفسك ".

البعد الثاني في هذا النموذج, هو " إدارة الانفعالات ", و الذي يُقصد به التحكم في سير الانفعالات بعد إدراكها, و وضع كل انفعال في مكانه المناسب,لتحقيق التوافق مع الذات و مع البيئة و المجتمع. كما يشمل أيضا طرق التعامل مع الانفعالات العاصفة و الشديدة,و امتصاص آثارها السلبية التي من شأنها زعزعة شخصية الفرد, و ذلك بعيش تلك الانفعالات و معالجتها بمرونة.فالفكرة الأساسية التي تعبر عن هذا البعد هي أن لكل موقف من مواقف الحياة انفعالا مناسبا له لا يمكن إنكاره أو قمعه كما لا يمكن أن يستبدل بانفعال آخر.فتقلب الحياة بين مواقف سعيدة و أخرى حزينة,ينبغي التعالم معه بوضع الانفعال المناسب في الموقف المناسب و عيش ذلك الانفعال بمعقولية. و الهدف من كل هذا هو إعطاء الحياة معناها الحقيقي.

فالأفراد الذين يعيشون دوما في ريتم انفعالي واحد و ثابت هم أكثر الأشخاص عرضة للمشاكل التوافقية,كما أن ألائك الذين يفتقدون إلى قدرة تسيير مشاعرهم و التعامل مع انفعالاتهم الطارئة بالمرونة اللازمة,هم أشخاص بحاجة ماسة إلى مساعدة. فالاعتقاد السائد بين عامة الناس فيما يخص التعامل مع الانفعالات السلبية كالحزن مثلا, هو أن أفضل وسيلة لتجنب هذه المشاعر هي إنكارها أو القفز عليها, إلا أن ذلك لا ينفع عادة, خاصة إذا كان الموقف يتطلب أن نعيش تلك المشاعر. إنما الحل يكمن في تقبلها و محاولة فهم سببها و الاقتناع بأنها طبيعية و هي تخص مرحلة أو حدثا معينا أدى إلى عيشها, أي أنها مؤقتة.

أما البعد الثالث لهذا النموذج النظري,فهو " تنظيم الانفعالات " و تسمى كذلك الدافعية الذاتية و التحكم في العواطف و القدرة على تأجيل الإشباع, و هي أيضا القدرة على تنظيم الانفعالات و توجيهها إلى تحقيق الانجاز و التفوق, و استعمال الانفعالات في صنع أفضل القرارات.

فقد أثبتت دراسات تتبعية هامة, أجراها مجموعة من الباحثين في السنوات الماضية, شملت مجموعة من الأطفال من مرحلة الروضة إلى غاية مرحلة المراهقة,أثبتت أن أفراد العينة الذين كانوا يستطيعون تنظيم انفعالاتهم و توجيهها توجيها صحيحا مبنيا على أساس الأهداف النهائية التي يريدون الوصول إليها, بما في ذلك مهارات تأجيل إشباع اللذات الآنية العابرة من أجل لذات مستقبلية أكبر.كان هؤلاء الأفراد الأكثر نجاحا في حياتهم الدراسية و الاجتماعية و المهنية,عكس الأفراد الذين كانوا يواجهون عجزا في فهم انفعالاتهم و استغلالها في حفز ذواتهم للوصول إلى أهدافهم النهائية.لذلك خلص أحد الباحثين المشاركين في هذه الدراسة للقول بأن:" تأجيل الإشباع المفروض ذاتيا و الموجه بالهدف,ربما يكون أساسا لتنظيم الذات الانفعالية ".و تجدر الإشارة إلى أن التنظيم الانفعالي يساعد الفرد في فهم الكيفية التي يتفاعل بها الآخرون من حوله بمشاعرهم المختلفة.

و هنا نصل إلى البعد الرابع و الذي يُعتبر أساسيا و هاما جدا في مجال النجاح في العلاقات الاجتماعية, و هو ما يُسمى بـ" التعاطف ", و يسمى كذلك التفهم أو التقمص الوجداني كما يسميه "إدوارد تيتشنرE.Titchener   " الذي يقول:" التعاطف ينبع من الشعور بمعانة الآخر، باستحضار مشاعر الآخرين نفسها إلى داخل المتعاطف نفسه".

و يوضح الدكتور بشير معمرية ما سبق بقوله: "يقوم التعاطف على أساس الوعي بالذات, لأنه بقدر ما يكون الفرد قادرا على تقبل مشاعره و إدراكها, يكون قادرا على قراءة مشاعر الآخرين. فالأشخاص العاجزون عن التعبير عن مشاعرهم, و المفتقدون لأي فكرة عما يشعرون به أنفسهم, يكونون في ضياع كامل. حيث أنه إذا طلب منهم معرفة مشاعر أي شخص آخر ممن يعيشون حولهم, فإنهم لا يجيبون بشيء ". و قد بينت الباحثة " زينب شعبان " في هذا الصدد عام 2003 دراسات أجريت في أمريكا على أفراد من أعمار مختلفة و من جنسيات مختلفة, أن الإنسان القادر على قراءة المشاعر من التعبيرات غير المنطوقة, يكون في حالة أفضل من حيث التكيف العاطفي و محبوبا أكثر من غيره,و تبين كذلك من نتائج هذه الدراسات أن النساء أفضل من الرجال في التعاطف,و أن الأطفال الأذكياء في قراءة المشاعر غير المنطوقة كانوا من الأطفال المحبوبين  في  المدرسة و أكثرهم استقرار عاطفيا و أفضلهم أداءً.

لذلك يُطلق بعض العلماء على هذا العنصر اسم " دور العاطفة الذكي ", فهو يشمل إدراك الإنسان لعواطفه الذاتية و فهمها فهما عميقا, ثم العمل على الحفاظ عليها و العناية بها و تطويرها, إلى القدر الذي يصل به إلى " الارتقاء " بها إلى القدرة على قراءة عواطف و انفعالات الآخرين, دون أن يضطروا هم للتعبير عنها, و استعمال هذه القدرة في التواصل معهم و تلبية احتياجاتهم, بما يكفل تقديرهم و تأثرهم بشخص الفرد المتعاطف.

أما البعد الخامس و الأخير في هذا النموذج فيسمى بـ "إدارة العلاقات ",و هو ما يمكن اعتباره فنا من فنون العلاقات الاجتماعية,كما يسمى بالكفاءة الاجتماعية و التواصل الاجتماعي.و يشير إلى تأثير الفرد القوي و الايجابي في الآخرين عن طريق إدراك انفعالاتهم و مشاعرهم, و معرفة متى يقود و متى يتبع الآخرين و يتصرف معهم بطريقة ملائمة.

فحسب بشير معمرية فإن الإنسان كائن اجتماعي, و قدرته على السلوك بصورة سليمة مع الآخرين عامل فعال في توافقه. و تشير الكفاءة الاجتماعية إلى القدرة على فهم مشاعر الآخرين و انفعالاتهم بالصورة المثلى التي يتطلبها الموقف, و هي تظهر في القدرة على التأثير في الآخرين و التواصل معهم, و قيادتهم بشكل فعال. هذا وقد كتب جولمان يقول: " فن العلاقات بين البشر هو في معظمه مهارة في تطويع عواطف الآخرين, و يتطلب ذلك كفاءة اجتماعية و قدرات و فعالية في عقد الصلات مع الآخرين. و المتفوقون في هذه المهارات يجيدون التأثير بمرونة في كل شيء يعتمد على التفاعل مع الناس".

و يضيف بشير معمرية على كلام جولمان أن إدارة الانفعالات بشكل سليم مع الآخرين, هي أساس تناول العلاقات على نحو صحي و ناجح, و هي مهارة أساسية في إقامة علاقات ايجابية متميزة مع الآخرين, و لكي ينجح الفرد في التحكم في انفعالاته يتطلب نضج اثنتين من المهارات في هذا النموذج هما: إدارة الذات و التعاطف.

و لعلنا نفهم الآن بعد كل الذي تقدم,أن مثل هذه النماذج النظرية و البحوث التي ارتبطت بها قد حققت الكثير في ميدان علم النفس الحديث, و ساعدت في فهم و تحليل الكثير من السلوكيات سواء كانت ظاهرة أو باطنية, و التي يتميز بها الإنسان مع نفسه و مع الآخرين. حيث صار مفهوم الذكاء الانفعالي أو العاطفي من بين أهم المواضيع المدروسة في الجامعات و مراكز البحث.

....يُتبع

Partager cet article
Repost0
10 septembre 2011 6 10 /09 /septembre /2011 14:49

population-1-.jpg

 آثاره على بعض مناحي حياتنا

يجب الاعتراف بأن عهد الاحتقار أو الاستصغار غير المعلن للعواطف و المشاعر قد بدأ في الانحصار,بعدما أثبت العلم الحديث أن تميز الفرد بعاطفة قوية و انفعالات عميقة ليس فيه أي عيب أو دليل على ضعف في الشخصية, مادام قادرا على اكتشاف تلك الانفعالات و المشاعر و الاعتراف بها و تحليل شكلها و  تحديد عمقها بشكل دقيق, و تسخيرها لصالح علاقته بنفسه و بمحيطه, و جعلها وقودا يملأ خزان طاقاته الإبداعية المختلفة, الذي يستخدمه في تجسيد خططه و أهدافه في الحياة.

و قد أثبتت الدراسات النفسية الحديثة التي تزامنت مع التطور الهائل في أدوات الرصد و المراقبة و القياس,أن للعواطف و الانفعالات, و ردود الفعل الفكرية و الفسيولوجية المصاحبة لها آثار بالغة الأهمية في تحديد نوع علاقة الفرد بمحيطه الاجتماعي و المهني, و من ثم مستقبل العلاقة نفسها. و أثبت جل العلماء أن لمستوى الذكاء العاطفي الدور الأبرز في تحديد المستقبل العلائقي للفرد و إن كان هذا المستقبل مشرقا أم العكس. و فيما يلي نلخص بعض أهم الجوانب الاجتماعية التي يلعب فيها الذكاء الانفعالي دوره الحاسم, استنادا إلى ما توصلت إليه بحوث العلماء في هذا الشأن:

أ-الذكاء الانفعالي و العلاقة الزوجية:

فالعلاقة الزوجية و مستقبلها مرهون – كما أثبتته الدراسات – بالخلفية العاطفية للزوج و الزوجة. فقد أكد جولمان على أن الاستعدادات و الصفات الانفعالية للرجل تختلف عن استعدادات المرأة بحكم الخلفيات الذهنية و العاطفية لكل منهما, و قد اعتمد في ذلك على بحث قامت بتلخيصه كل من "ليسلي برودي Lislie Brody  " و "جوديث هول Judith Hall  " يؤكد على أن الفتيات يتطورن في اللغة بسهولة و بسرعة عن الذكور و هذا ما يجعل الإناث أكثر  حدة في إظهار مشاعرهن, و أكثر مهارة من الأولاد في استخدام الكلمات ليكشفن عن ردود أفعالهن العاطفية. أما الذكور ممن لا يتلقون  تأكيدا لفظيا للمؤشرات التي يواجهونها, قد لا يدركون كثيرا حالتهم الانفعالية أو حالات غيرهم, و غالبا ما تكون المعارك الجسدية سبيل العنصر الذكوري للتعبير عن ردود الفعل الانفعالية بدل الألفاظ.

لهذا يستنتج جولمان أن أغلب الخلافات التي تنشأ بين الأزواج مردها الاختلاف بين أنماط السلوك الانفعالي بين الجنسين من جهة, و جهل كل طرف بالخصائص العاطفية و المعرفية للطرف الآخر من جهة ثانية. لهذا يؤكد على أن الرجال  الذين يمتلكون مهارات الإعفاء الجيد و التعاطف مع حالات الزوجات هم الأزواج الذين غالبا ما ينتهي بهم المطاف إلى كسب ثقة زوجاتهم و إطالة علاقاتهم بهن. إضافة إلى الأهمية القصوى لدور المناقشة  التي تدور بين الأزواج حول المشاكل و المنغصات, إذ يوضح جولمان أن تقصير دورات المناقشة و تقديم الحلول العملية السريعة للمشاكل من طرف الأزواج, من أهم الأمور السلبية التي يجب تفاديها, لأن الزوجات عموما يرغبن في إطالة تلك المناقشات, فقط من أجل  أن يشعرن بأن أزواجهن يصغون إليهن باهتمام, بغض النظر عن بساطة أو حتى سذاجة موضوع النقاش.

و الحقيقة أن معظم الأزواج لا يفهمون هذا التفصيل الصغير, و لا يدركون أن المرأة في العموم تلجأ إلى تضخيم بعض المشاكل فقط لترى زوجها مصغيا و متعاطفا و مانحا لها مزيدا من الوقت, فيميل هؤلاء الأزواج – إما عن جهالة أو عن قصد – إلى التهكم على المشاكل المطروحة للنقاش, و بأنها سخيفة و لا تستحق كل هذه الضجة من طرف الزوجة, فيكونون بذلك قد فتحوا الباب لفقدان الثقة و الشعور بالوحدة و النكد من طرف الزوجة.

لكن طبعا هذا لا يعني إعفاء الزوجات من المسئولية في التصدعات التي تصيب علاقتهن مع أزواجهن, إذ يشير العلماء إلى أن من أهم الأخطاء التي تقع فيها الزوجات عادة في مثل هذه العلاقات هي التهجم المباشر على شخصية الزوج عند حدوث أي أمر منغص, و كما يشير جولمان دائما, فإن عدم قدرة الزوجة على التفريق بين أي سلوك سلبي صادر عن زوجها و بين هذا الزوج كشخص, غالبا ما يدفعها إلى إطلاق عبارات التهكم و الاستصغار أو حتى الاحتقار في حقه, بدل انتقاد سلوكه بشكل لائق و محترم, و هو – حسب علماء النفس – من أكثر الأمور التي تمس الرجل في الصميم. فتجعله يفقد احترامه للزوجة مع مرور الوقت, بل و قد يكون أحد الأسباب للعنف المعنوي أو البدني أو حتى الخيانة الزوجية مستقبلا.

لذلك فإن أهمية الذكاء الانفعالي في هذا الجانب الجوهري في الحياة الاجتماعية, تكمن في معرفة الخصائص الانفعالية لكل من طرفي العلاقة الزوجية, و الاعتماد على هذه المعرفة القائمة أساسا على مهارتي التعاطف و إدارة العلاقات في توجيه العلاقة بين الزوجين في الاتجاه الصحيح.

بـ- الذكاء الانفعالي في الأسرة:

و كما يقول جولمان: "الأسرة هي المدرسة الأولى للتعلم العاطفي, فنحن نتعلم في هذا المحيط الاجتماعي كيف نتمعن في مشاعرنا و نحدد اختياراتنا كرد فعل لهذه الاستجابات". و يرى جولمان  أن هذه التربية العاطفية تتم عن طريق ما يقوله الآباء و يفعلونه و يقدمونه من نماذج في كيفية تعاملهم تجاه أبنائهم, و كيف  يتبادلون المشاعر هم أنفسهم فيما بينهم.

فقد قام سالوفي و آخرون ببحث اقترح أن آباء الأطفال أو الأفراد الأذكياء عاطفيا يكونون حساسين انفعاليا لأطفالهم في وقت الحاجة العاطفية. و من بين أهم العناصر التي تنمي القدرات العاطفية للأطفال منذ سن مبكرة هي "المظاهر الأمومية التعبيرية", أي ردود أفعال الأم على تعابير الطفل, إذ يوضح كل من "دنهام و غروت Denham & Groat  " عام 1993 في إحدى الدراسات, أن ردود الفعل التعبيرية للوالدين على انفعالات الأطفال يمكن أن  تكون عوامل هامة لجعل الأطفال يعرفون أي اتجاهات السلوك تكون ملائمة, عندما يشعرون بأن هناك طرقا مختلفة يمكن استخدامها للاستجابة.

كما يكتسب الطفل الذكاء العاطفي عن طريق حديث الأسرة المفتوح عن المشاعر و الانفعالات التي تقوي وعي الطفل العاطفي, الذي يسمح له بتبني المعاني الملائمة و الشائعة ثقافيا حول الخبرة الانفعالية. لذلك فالأطفال الذين ينشئون في أسر يتكرر فيها الحديث حول الحالة الشعورية يبدون أفضل في اتخاذ أحكام حول انفعالات الراشدين.

و هكذا إذن تبرز الأهمية التي تلعبها النظرات العاطفية و اللمس و المناغاة منذ مرحلة الرضاعة,إذ يستعملها الأبوين كلغة إشارات انفعالية و عاطفية,تعلم الطفل التواصل الوجداني و التعلق بالوالدين,و تمهد له الطريق لاكتساب قدرة فهم و تفسير الحالات الانفعالية للآخرين في سن مبكرة. يتبعها شكل العلاقة الزوجية بين الأبوين, إذ تبرز أهمية إبراز الأبوين الحب و الاحترام المتبادل بينهما أمام الأطفال, لتعزيز الشعور بالأمان و الثقة من جهة, و من جهة أخرى ليشكلا نماذج ممتازة عن شكل العلاقات الإنسانية الأنسب الذي يسعى الطفل لتشكيله مستقبلا. يضاف إلى كل هذا – و هو ما يعتبر طابو في مجتمعاتنا – الحديث و التعبير الصريح عن مشاعر الحب و الود داخل الأسرة,و الذي يعتبر سلوكا جد مهم في إكساب الطفل القدرة على وصف مشاعره و التعبير عن حالاته العاطفية بدل كبتها, إذ يتصل هذا السلوك مباشرة بالمعرفة الانفعالية, التي – كما أشرنا سابقا – تعد الركيزة الأساسية لمهارات الذكاء الانفعالي.

ج-الذكاء الانفعالي في المدرسة:

تقول السيكولوجية الجزائرية " زبيدة الحطاح "أن: المجال المدرسي مجال نفسي و اجتماعي لا يمكن فصل الظواهر النفسية للأفراد فيه عن الظواهر الاجتماعية الخاصة بالمجموعات الصغرى التي تلتقي فيه  و تتفاعل في إحداث الظواهر التربوية. فالمتغيرات السيكولوجية  الخاصة بالأفراد من حاجيات و دوافع و أهداف و إدراكات, تلتقي بالمتغيرات الاجتماعية من منظومات القيم الثقافية, و هكذا يكون المجال المدرسي مجالا عاطفيا لسببين رئيسيين حسب الباحث "خوالدة محمود" و هما: 1- أن مجال المدرسة هو مجال معرفة, إذ لا يمكن أن نوجه أية آلية معرفية بدون عناصر وجدانية و عاطفية. 2- أنه – أي المحيط المدرسي – مجال علاقات إنسانية و حيث ما تكون العلاقات تكون العواطف.

فهذا جولمان يرى أن المدارس هي الأماكن الأولى التي يمكن أن تديرها المجتمعات لتصحيح القصور في الكفاءة العاطفية للتلاميذ, بما أن داخليها و مرتاديها يكونون مختلفين انفعاليا بحسب بيئة و خلفية كل فرد متمدرس. لهذا هي تضطلع بمهام التغيير اللازم من أجل سد الفراغات العاطفية- المعرفية التي خلفتها أساليب التنشئة الخاطئة أو الناقصة داخل الأسرة, و هنا تعتبر مهارات و قدرات  الذكاء العاطفي لدى المدرسين عاملا حاسما في تأدية هذا الدور.

و يمكن الإشارة إلى أنه و في السنوات الأخيرة دأبت بعض الحكومات الغربية على وضع سياسات تربوية في مختلف المدارس و المؤسسات التعليمية, من أجل  نشر و توسيع مفاهيم الذكاء العاطفي وسط المتمدرسين, عبر توطيد مؤهلاتهم و قدراتهم العاطفية "Emotional Aptitude  ". و كمثال على ذلك المشروع الذي ترعاه الحكومة البريطانية, و الذي يقوم بتنفيذه باحثون و أكاديميون و القاضي بنشر المفاهيم و القيم الخاصة بالمهارات الاجتماعية و العاطفية, و نشر العادات الخاصة بها وسط طلاب و تلاميذ نحو ألف مدرسة ابتدائية في بريطانيا. و يقول "جيمس بارك James Park  " رئيس هذا المشروع أن جامعات أسترالية قد أبدت اهتماما بهذه الفلسفة التربوية, و هي متحمسة لنقلها إلى جامعات و مدارس أستراليا.

إن الهدف من كل هذه الجهود هو تثقيف الأطفال و التلاميذ و حتى المدرسين عاطفيا لمواجهة ما يُمكن وصفه في عصرنا الحالي بالأمية العاطفية "Emotional illiteracy  " من أجل تحسين تحصيلهم العلمي و الأكاديمي, بما أن العملية التعليمية هي عبارة عن تكامل  و علاقة وثيقة بين الجانب المعرفي و الجانب الانفعالي.

د-الذكاء الانفعالي في أماكن العمل و المؤسسات:

إن التدخلات في آماكن العمل لتنمية الذكاء العاطفي تكون هامة لأن الكثير من البالغين يدخلون عالم الشغل بدون القدرات الضرورية للنجاح, فقد أجري مسح قومي في الولايات المتحدة الأمريكية  للموظفين تبين منه أن أكثر من 50% من العاملين تنقصهم الدافعية للعمل و التعلم للتحسن في وظائفهم. و إذا ما علمنا أن الباحثين يقولون أن هناك فقط ما بين 10- 20% من التباين في اختبارات النجاح المهني يمكن إيعازه إلى قدرات معرفية, و أن عوامل النجاح المهني الأخرى و  التي تقع ما بين 80- 90% فتعزى إلى النواحي الوجدانية و سمات الشخصية, يمكننا إذن تصور الأهمية القصوى التي تحتلها قدرات و مهارات الذكاء العاطفي في المجال المهني, كمنطلق لأي نجاح أو ازدهار تحققه المؤسسات المختلفة.

فالصناعة الأمريكية تنفق في هذه السنوات ما قيمته 50 مليون دولار سنويا على برامج التدريب الوجدانية بصفة أساسية. و عندما طُرح سؤال من "الشركة الأمريكية للتدريب و التطويرAmerican Society for training and developpment  " على مجموعة تتكون من خمسين شركة حول تفضيلهم التدريب و الأنشطة التنموية لتنمية الذكاء العاطفي لموظفيها, تبين أن أربعة من خمسة شركات أكدت أنها تفعل ذلك دائما.

و في هذا الصدد يظهر مشروع "التعلم الاجتماعي و العاطفي Social and Emotional Learning  " كعلامة على الجهود التي تبذلها الأوساط الأكاديمية الأمريكية عبر شبكاتها و منظماتها المختلفة, من أجل نشر مفاهيم  و مهارات الذكاء العاطفي  و المؤهلات الوجدانية في الأوساط المهنية المختلفة, من أجل تطوير قدرات الأفراد الذاتية في مجال العمل و الإنتاج, و كذلك تطوير شبكة العلاقات الإنسانية داخل النسيج المؤسساتي لمضاعفة مردوديته انطلاقا من علاقة الفرد مع ذاته و علاقته مع الأخر.

و هكذا نصل إلى خلاصة مفادها أن ذكاء الإنسان ليس مرهونا بتاتا بما يملك من مؤهلات أكاديمية أو مستوى جامعي راق, بقدر ما هو مرتبط أساسا بقدرته على فهم مشاعره و مشاعر غيره, و تسييرها لخدمة صحته النفسية و تطوير قدراته العقلية ذاتيا, و النجاح في علاقاته الاجتماعية و تطوير مجتمعه على هذا الأساس.

إن غالبية الأفراد في عصرنا الحالي, و بسبب الوتيرة السريعة التي يتميز بها, صاروا يفتقدون إلى قدرة المعرفة الانفعالية,بسبب عدم ملاءمة وتيرة و نمط الحياة العصرية المليئة بالمتطلبات الطارئة,مع مفهوم الاختلاء أو الجلوس مع الذات و التأمل في أحوالها و احتياجاتها الحقيقية, و الذي كان فيما مضى ثقافة قائمة بذاتها, حيث تم استبداله اليوم بنشاطات ترفيهية ذات طابع مادي و خيارات كثيرة مُغرية, تجر الفرد إلى التبعية النفسية و الانفعالية لها, على حساب استكشاف ذاته و رصد احتياجاتها الحقيقية, و هو ما عمل على تعطيل قدرة العقل الذاتية في فهم ذاته, و جعل قدرات الذكاء الانفعالي لدى إنسان القرن الواحد و العشرين تتراجع بشكل مقلق, فهل آن الأوان ليفكر كل شخص في هذه المسألة بجد ؟.

-------------------------

المراجع:

-بشير معمرية, بحوث و دراسات متخصصة في علم النفس, الجزء الثالث, منشورات الحبر 2007, الجزائر.

-دانييل جولمان, الذكاء العاطفي, ترجمة ليلى الجبالي, عالم المعرفة 2000, الكويت.

-زبيدة الحطاح, الذكاء العاطفي: مفاهيمه, أبعاده و تأثيره في مجالات الحياة, مجلة دراسات نفسية و تربوية, العدد الثالث 2008, قسم علم النفس و علوم التربية و الأرطفونيا, جامعة البليدة, الجزائر.

-Robert Glossop & Alanna Michell, L’intelligence affective, une affaire de cœur , L’institut Vanier de la famille, Ottawa - Canada 2005.

Partager cet article
Repost0

Présentation

  • : Le blog de Amir Fennour
  • : هذه المدونة تحوي مقالات في شتى الميادين التي يهتم بها المدون, من مقالات في العلوم الاجتماعية و التراث الجزائري إلى بعض القصص القصيرة و النصوص النثرية. هي مقالات و نصوص سبق و تم نشرها في مواقع أخرى, لكن الكاتب أعاد جمعها في هذه المدونة إضافة إلى مقالات و نصوص لم تُنشر من قبل
  • Contact

Recherche

Pages

Liens