يوم النصر
ينبلج الصبح ببطء وسط نسيم هادئ, يتنفس معه اليوم الجديد آخذا وقته في ذلك الزفير الصامت الذي يُحرك أوراق الأشجار, و كأن به يتنهد من طول ليل حاسد, مخيف و قاس. لكن بشرى خيوط الشمس الأولى تزف إلى الجبال و سكانها البسطاء شيئا ما, شيء يظهر من خلال ذلك الجمال الغريب, الذي ما فتئ يزداد وضوحا يوما بعد يوم, صبحا بعد صبح, طيلة الأسابيع الأخيرة. و ها هي البلاد تدخل اليوم الثامن عشر من شهر مارس/آذار, من عام 1962..., هذه الأيام توحي بأن شيئا ما سيحدث, شيء جميل ! .
يسير الرجال في صف طويل على طول التل الذي يُطل على مروج شديدة الاخضرار, مترامية على مد البصر,تكاد لتوها تودع عتمة الليل الداكنة الرطبة. خطوات الرجال متثاقلة و لكنها مؤكدة, حيث يسير النقيب متقدما مجموعته و هو يلهث بعد أن أعياه صعود التلة, بل وسير ليلة كاملة للوصول إلى وجهتهم المحددة. يسير و هو يتفحص بين الفينة و الأخرى التلال و المروج المحيطة, و كأن به يمسح المكان ببصره على سبيل الفطنة, ثم يلتفت خلفه يتفقد حال رجاله, التي لم تختلف كثيرا عن حاله, كلهم يلهثون, كلهم يتثاقلون..
_ " ليتوقف الجميع ! , سنستريح لربع ساعة, ثم نواصل ".
صاح النقيب على رجاله, و قد وضع حقيبة ظهره على الأرض, أو بالأحرى رمى بها على الأعشاب الكثيفة, و هو يجثم على ركبة واحدة واضعا بندقيته برفق فوق الأخرى, يتفحص المكان باستمرار, في الوقت الذي امتدت فيه يده إلى وراء حزامه العسكري الغليظ باحثة عن قنينة الماء المُعلقة به, فأخذ بها و ارتشف ما بقي فيها من ماء, في حين استمرت مقلتاه في الدوران, إلى التلال يمينا, إلى التلال شِمالا, كيف لا يكون محترسا باستمرار و قد صار هذا السلوك لا إراديا, بعدما صقلته حرب ضروس دامت سبع سنين و أربعة أشهر حتى الآن ؟ ! .
_ " خطوط و مراكز الفرنسيس بعيدة عن هذه المناطق الجبلية الحصينة أيها النقيب ! ".
سمعها النقيب قادمة من وراء ظهره فالتفت, ليجد الملازم ينظر إليه باستفهام, و كأن به يسأله عن هذا الحذر الدائم و الزائد, لكن النقيب لم يرد عليه, و كأن به يخبره بأن يُغلق فمه, لأنه لم يعش و لم يخبر الكمائن و المواجهات التي خبرها طيلة هذه الحرب الرهيبة, التي لم يتوقع لها أن تدوم كل هذه السنوات, أو تكون بهذه الدموية يوم التحاقه بمعسكرات التدريب السرية, التي أقامتها المنظمة الخاصة مباشرة بعد مجازر الثامن مايو, التي لا يزال يحتفظ بصورها المرعبة في ذاكرته المنهكة بجميع أنواع الصور البشعة, التي رآها طيلة حياته التعيسة. كيف لا يكون احترازيا و جسده الهزيل يحتفظ بآثار الرصاص و الشظايا و خدوش الأسلاك الشائكة و آثار الاستنطاق و التعذيب, و التي كانت ستختصرها مئات الصفحات من دفتر يوميات أو مذكرات ؟ ! .
راح أحد الجنود الشباب يخلع جزمته العسكرية بصعوبة و هو يتألم و يتأفف مطلقا زفير من يتذمر من الوضع برمته, قبل أن تعلو محياه نظرات ذهول ممزوجة بخيبة واضحة, و كأنه تأكد مم كان يخشى حدوثه, فقد انتزع جوربه المبلل ليكتشف أنها دماء ناتجة عن عدم تحمل جلدة قدميه ساعات طويلة من السير المستمر عبر الجبال, فطفق الشاب يسب و يلعن, مستخدما في ذلك ما يزخر به قاموس الكلمات النابية الجزائري من كلام بذيء, قبل أن يصله صوت من خلفه تعلوه بحة يطلب منه أن يصمت و يحترم نفسه, فالتفت إليه المراهق و هو يستعد ليكون رده ممجوجا و ملونا بكلمات أكثر قبحا, لكنه سيطر على نفسه في آخر لحظة, و كأن به يبتلع تلك الفقاعة النتنة التي ملأ بها فمه بصعوبة, بعد أن أدرك أن صاحب الصوت هو كهل في نصف العقد الخامس من العمر, حمل السلاح قبله بسنوات, و ظل يصر على إنهاء المعركة رغم حالته البدنية المتدهورة, إذ أنه لم يعد يتحمل السير و الركض و القفز, دون الحديث عن شراسة فصول البرد و الحر و لعنة الجوع التي لاحقت الجميع على مدار سنوات, لكن عجبا, فالرجل لا يزال حاضرا و ثابتا رغم كل شيء ! .
كان النقيب يراقبه عن بعد و هو يُفكر في حال هذا الرجل, الذي لم يكن في الأصل سوى مزارع أمي بسيط, يعيش حياة هنيئة رغم قساوتها, يوم جاءت حاملات جند فرنسية في ذلك اليوم الربيعي المشمس الجميل من عام 1945, فطوقت مجموعة البيوت الطوبية المتلاحمة التي كان يعيش فيها رفقة عائلته الكبيرة, و كما يحكي هو نفسه, فقد كان يومها قادما من بعيد تاركا أغنامه خلفه, بعدما رأى من بعيد الجند و هم يصرخون على أهل البيوت يأمرونهم بالخروج إليهم, فراح يسير نحوهم ليستفسر عما يحدث. حين كان يتقدم من بعيد فإذا به يرى ابنه البكر الذي جاز عتبة الباب و علامات الاستفهام و القلق تلف وجهه, و من دون سابق إنذار, يسقط فجأة على الأرض برصاصة في العنق, جاءته من بندقية أقرب جندي منه, حيث ضرب صدى إطلاقها التلال المحيطة و سمّر الأب في مكانه, و هو يرى ابنه المراهق يتخبط للحظات أمام الباب و قد فارت دمائه من فمه, قبل أن يتوقف نهائيا عن الحراك, لتتعالى صرخات النساء من الداخل و يتقدم الجنود نحو التجمع السكني راجلين من جميع الجهات, في حين ظل الأب متخشبا في مكانه يراقب ما يحصل من فوق التل, و قد تسارعت أنفاسه و راح بدنه يرتعش خوفا و وجلا وهو ينظر إلى ابنه القتيل.
_ " اسقطوا الموري(1) الحقير !! .... اقتلوه !! ..."
صرخ الضابط الفرنسي على رجاله و هو يشير بسبابته نحو فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر, كان قد فقز لتوه من فوق حاجز طيني منخفض, محاولا الفرار بعدما رأى ما حدث لابن خالته, لكن الرصاصات اخترقت ظهره و صدره, و طار فكه السفلي برصاصة جانبية في الوجه, ليسقط من فوره وسط طيور الدجاج و الديك الرومي التي كانت تركض في جميع الاتجاهات هاربة من صوت البنادق.
حينئذ, و من دون شعور, وجد المزارع المصدوم نفسه و هو يركض مبتعدا عن المكان عسى ان ينجو بنفسه من غضب ألائك العسكر, إذ ركض مسافة معتبرة بأقصى سرعة, قبل أن يتوقف هنيهة و هو يلهث بشدة, بعدما كاد بكاءه و نحيبه يخنقانه, فالتفت نحو جهة منزله الواقع خلف الربوة التي عبرها جريا و وثبا, ليرى أعمدة من الدخان الأسود و الرمادي الكثيف و هي تتصاعد من هناك, فأدرك أن العسكر قد أضرموا النار في البيوت و المحاصيل. لكنه تابع الهرب و قلبه يتقطع على أسرته, و هو لا يفهم لم و بأي سبب فعل الفرنسيون فعلتهم تلك, لكن الجواب جاءه بعد أيام, و هو أن الأوروبيين كانوا ينتقمون لبعض قتلاهم, بسبب مظاهرات سلمية أقامها الجزائريون احتفاء بانتصار الحلفاء في الحرب, و عودة أبنائهم من جبهات القتال الأوروبية, مطالبين فرنسا بالوفاء بتعهداتها تجاه منحهم حق تقرير مصيرهم, فكان رد الشرطة الفرنسية هو إطلاق النار عليهم, فانفجار الوضع.
ينظر النقيب إلى ذلك الرجل الغارق دوما في صمته الحزين, و نظراته الشاردة, يستذكر قصته الفظيعة مع الفرنسيس و هو يعلم أنه كالكثير من المجاهيدن, إنما حمل السلاح في السنوات الأولى لحرب الاستقلال, لدوافع شحصية, أساسها الغضب الشديد و الرغبة في الانتقام لما حدث لذويه خلال أحداث مايو 1945, قبل أن يعي و يدرك خلال سنوات القتال الطويلة و الرهيبة, أنه لا يجب حصر الأمر في هذا الجانب فحسب, بل هناك أمر أكبر منه بكثير, و هو الذي حرك مجموعة من 22 جزائريا ليخططوا لتفجير فقاعة الغضب هذه في وجه دولة الاحتلال و الكولون(2) أول مرة, كما أن احتكاكه بالشباب الجزائريين الذين شاركوا في الحرب العالمية, و الذين تمكنوا خلالها من التخلص من عقدة الخوف التي تكسرت فوق شراسة النازيين و الفاشيين, بعد كل تلك المواجهات وجها لوجه في المعارك الطاحنة, و اكتسبوا حس الوطنية و قيم الحرية و الاستقلال, بعدما اختلطوا بجنود الحلفاء, ساهم في تحسيسه رفقة أمثاله من المزارعين و القرويين البسطاء الذين تحولوا إلى جنود, بأن الأمر يتعلق فعلا بحرب استقلال و ثورة تحرر و ليس مجرد انتقام أو " حرب بلا اسم ".
راح النقيب ينظر إلى جنوده و هو يعلم أن كل واحد منهم قد مسته هذه الحرب بشكل عميق, فهاذا فقد أبويه, و ذاك لديه أشقاء ينتظرون حكم الإعدام في سجون الاحتلال, و الآخر يجهل تماما ما حل بأسرته التي هُجّرت قسرا إلى مراكز الاعتقال, التي يقبع بها أكثر من مليون جزائري, هناك من اغتصبت بناته من طرف مظليي الجيش الفرنسي, و هناك من قُطعت أعناق أبنائه بسكاكين ميليشيات الحركى(3), و هناك من فقد جميع أهله, بل و فقد جميع أفراد عشيرته الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم, في غارات الطيران و القصف المدفعي على قرى و مداشر مُحيت نهائيا من على الخارطة, فبقي وحيدا, ليس له أحد أو مكان يعود إليه بعد انتهاء الحرب سوى الركام و المقابر الجماعية. فكيف لا يغرق المرء في جنون الغضب و الغل و تضيع روحه وسط عاصفة محيط الحزن و الانتقام الداكن ؟.
يتنهد النقيب, ثم يتذكر شيئا, فهل من أخبار جديدة قد تصلهم عند بلوغ المركز الذي هم في طريقهم إليه عن المفاوضات ؟, يُشاع أن السي بالقاسم(4) و رفاقه يتوجهون لإخضاع المفاوض الفرنسي و طرحه أرضا و بشكل نهائي, يبدو الأمر جنونيا لوهلة, و لعل السبب بسيط, و هو أن هذا الجيل الثوري المقاتل, قد يكون أول جيل سيعيش و يخبر معنى " الاستقلال " لأول مرة منذ 1830 ؟ !!, أجل, " الاستقلال ", فاكهة تبدو خرافية نوعا ما بالنسبة لشخص لم يتذوق طعمها منذ أن جاء إلى هذا العالم, بقدر ما سمع عنه فقط, طعم خرافي !.
لا وجود لاتصالات منذ أيام بعد أن تعطل جهاز المورس, فالفصيلة ظلت معزولة وسط الجبال و الغابات طيلة هذا الوقت, لذلك انطلق الرجال مرة أخرى يسيرون في خط طويل, مع الطول المتزايد لظلالهم التي كانت تعانق الأحراش و الشجيرات و الأزهار كلما زادت الشمس إشراقا في الأفق, مع هبوب نسيم ربيعي عليل منقح بروائح و عطور النباتات, و كأن بالأرض تبعث لهم بتحياتها و امتنانها, سنوات من القتال و الخوف و الحزن و الجوع و الصبر, من أجلها و فقط. ثم ماذا بعد ؟, سيصلون إلى مركزهم, ليجودوا تعليمات جديدة تنتظرهم, عمليات اختراق و عبور للحدود من أجل تأمين قوافل تهريب السلاح نحو الداخل, حمل لوثائق أو مستندات مهمة, تأمين تنقل شخصيات قيادية داخل الولاية التي يتبعونها إداريا, كمين لقافلة عسكرية للعدو, هجوم على مراكز عسكرية فرنسية متقدمة أو استهداف لمنشآت قاعدية....., فمفاوضات "إفيان" الثانية قد تفشل كما فشلت سابقتها على أية حال, ثم ماذا بعد ؟, لقد حاربوا لسنين إلى درجة أنهم و رغم تعبهم و انهيارهم, لم يعد الاستمرار في القتال و الحرب يمثل لهم مشكلة كبيرة, فليس هناك ما قد يخسرونه بعد كل الذي حدث, رغم أن الجميع قد سئم هذه الحرب, حتى الجلاد القوي نفسه لم يعد يحتمل هذا القدر من العنف و الفظاعة.
بعد بضع ساعات أخرى من المسير عبر الغابات و المرتفعات الجبلية, لمح النقيب أحد الحراس يقف من بعيد فوق إحدى الصخور الشاهقة, و هو يلوح له بيده, و كأن به يطلب منه الاستمرار بعدما عرفه و عرف الفصيلة, و الغريب في الأمر أنه كان يبتسم ؟. هذه أول مرة طيلة سبع سنين من الحرب يُرى فيها جندي في نوبة حراسة يبتسم من دون سبب ! . فقد وصلوا إلى مركز الكتيبة الذي كانت تغطيه أشجار البلوط و الصنوبر الكثيفة, لكن النقيب و رجاله لاحظوا حركة غير عادية في المحيط و هم يلجون إليه, كان هناك صياح متفرق هنا و هناك, ينادي بحياة الجزائر, انتشرت معه همهمة بين جنود الفصيلة و هم يسألون بعضهم عما يجري, فإذا بالنقيب يلمح جنديا شابا يجري ساعيا في طريقه إلى أحد المكاتب, و وجهه يفيض بعلامات الاستبشار و هو يحمل بعض الأوراق في يده, فأوقفه و هو يسأله عما يحدث بحق الجحيم ؟.
_" لقد وصلتم متأخرين بعض الشيء سيدي النقيب, قبل نحو نصف ساعة قُرئ علينا بيان مهم صادر عن المجلس الوطني للثورة, و لكن ألم تصلكم المستجدات عبر اللاسلكي ؟ ! ".
_ " ما الذي حدث ؟, تكلم أيها الجندي ! ".
_" لقد, توصلت الحكومة المؤقتة لاتفاق وقف القتال مع الطرف الفرنسي, سيدخل حيز التنفيذ منتصف يوم غد, لقد رضخت فرنسا أخيرا لمطلب حق تقرير المصير !!".
اغرورقت عينا الجندي و هو ينظر إلى وجه الضابط المذهول, ثم قال بصوت مرتعش متقطع غمرته الفرحة و التأثر, و كأن به لا يُصدق ما ينطق به لسانه...
_ " سيدي النقيب, لقد انتهت الحرب, لقد انتصرنا !!! ".
في تلك الأثناء تصاعد الصراخ وسط الجنود, و الكل لا يكاد يصدق ما يسمع, فأخذ الشباب الذين كانوا في مؤخرة التشكيل يحاولون استراق السمع و بعضهم يقفز إلى الأعلى, عسى أن يرى أو يفهم ما الذي يحصل, إلى أن وصلتهم صيحة تقول بأن الحرب قد انتهت, في حين راح ضباط الصف يصرخون و يأمرون بالتزام الهدوء و الانضباط و بعضهم يبتسم, في حين ظل القائد واقفا مكانه و هو شارد الذهن يحاول أن يضع الأمور في نصابها داخل رأسه, لكنه لم يستطع, و الحقيقة أن مظاهر الفرحة كانت لا تزال تسيطر على جميع أفراد الكتيبة, في حين انفجر بعض الجنود بالبكاء من شدة التأثر فهل يُعقل ؟, هل يعقل أن ينتهي الأمر بكل هذه البساطة ؟, من كان يصدق بأن فرنسا الجبارة قد رضخت أخيرا !.
في تلك الأثناء التي راح فيها الجنود يتبادلون العناق الحار, و تعالى هتاف رجال الكتيبة مرة أخرى, بكى البعض بحرقة و هم يتذكرون كم كان الوصول إلى هذه اللحظة عسيرا و مؤلما, كم كانت السنين العجاف قاسية مع الجميع, و كم كان الثمن باهظا. أما الكهل الذي أبيدت عائلته و صودرت كل أملاكه في مجازر مايو 1945, فقد ظل هو الآخر واقفا في مكانه يتفرج على الجميع بدهشة غريبة, لم تبد معها أي علامات تأثر عميقة, لكنه و بعد أن وقف دقائق معدودة في مكانه يتلقى العناق و القبلات من طرف رفاق السلاح, جثم بهدوء على ركبتيه, ثم وضع جبينه على الأرض, و راح يبكي بحرقة شديدة, إلى درجة أن دموعه بللت التراب من تحت وجهه.
انسحب النقيب في صمت بعدما قدم التحية لرجاله, و بعدما هنأ بقية الضباط في الكتيبة, فقد اختلى بنفسه في مكان معزول وسط الغابة, فأسند ظهره إلى جدع شجرة بلوط, و طفق يبكي هو الآخر كما يبكي الطفل الصغير, فقد كان يمر أمام عينيه في تلك اللحظات شريط صور هذه الحرب منذ بدايتها و وصولا إلى هذا اليوم العظيم, كان يرى صور أحلك الظروف التي عاشها رفقة الكثيرين, ذكريات فصول الشتاء القارص و أشهر الثلج و الصقيع و الحصار البري و الجوي و المطاردات, صور جثث آلاف الرفاق المدرجة بالدماء و المليئة بثقوب الرصاص, صور أشلاء الشهداء المعلقة فوق الأسلاك المكهربة, صور القرى المدمرة عن آخرها و وجوه الأطفال و العجائز التي فقدت ملامحها بسبب الركام و الأتربة و الرماد, أصوات عويل الأرامل و بكاء اليتامى.
لكنه لم ينس بعض اللحظات اللطيفة التي عاشها رفقة رجاله و إخوته في السلاح في بعض المناسبات, و هو ما زاد في تأثره أكثر, كصور تلك الأعراس البسيطة للجنود أو الضباط الذين حالف بعضهم الحظ ليعيش هذا اليوم, لكن البعض الآخر لم يعش حتى يرى وجه مولوده الأول, الذي سيكتب له اليوم بأن يعيش تحت راية وطن مستقل, تلك اللحظات الحميمة التي كانت تجمع الجميع و هم يستعدون لأخذ الصور التذكارية التي كان يلتقطها الصحفيون الأجانب من أصدقاء الثورة, أو رجال الدعاية الحربية في جيش التحرير, و الجميع يجزم بأنها صور ستبقى و ستحفظ في متاحف الجزائر المستقلة, لتطلع عليها أجيال الاستقلال و تشعر بالفخر لتاريخ هذه الأمة المحاربة. كان النقيب يرى وجوه ألائك الشباب الباسمة في لحظات النكت أو المزاح, ألائك الشباب الذين لم يحالفهم الحظ ليشهدوا على هذه النهاية الكبيرة, و لم يحالفهم الحظ يوما بأن يعيشوا حياتهم أو يستمتعوا بها كما ينبغي, فقد كانت أرواحهم ضريبة الاعتراف بالوجود, و كانت دمائهم الحبر الذي خُط به كتاب المجد, فنظر الضابط نحو السماء و هو يمسح دموعه محاولا استرجاع أنفاسه, متمنيا أن تكون الأخبار قد وصلتهم.... أينما كانوا.
----------------------------------
1- الموري هي كلمة من أصل إغريقي, كانت تُطلق في عهد اليونان القيدمة على الشعوب غير الإغريقية عموما, و على شعوب شمال افريقيا بالخصوص, و قد ظلت هذه الكلمة تستعمل إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر (Maure), للدلالة على الأهالي الجزائريين.
2- الكولون أو " الأقدام السوداء " و هم جميع المستوطنين الذين جاءوا من أوروبا بعد سقوط الجزائر في قبضة الاحتلال الفرنسي, من فرنسيين, إيطاليين, مالطيين, ألمان و إسبان, حيث أعطيت لهم امتيازات كبيرة, على رأسها الأراضي و العقارات التي انتزعت من ملاكها الأصليين في القرن التاسع عشر. و رغم أن اتفاقية إيفيان, التي أنهت الحرب بين جبهة التحرير الوطني و الحكومة الفرنسية, و مهدت لاستقلال لجزائر, قد ضمنت حقوق من أراد من هؤلاء الأوروبيين البقاء في الجزائر لكن بصفتهم رعايا أجانب أو كجزائريين إن اختاروا الجنسية الجزائرية, إلا أن غالبيتهم رحلت بسبب مجازر منظمة الجيش السري الإرهابية الفرنسية ( OAS ) التي رفضت استقلال الجزائر, و حتى ممارسات بعض الجزائريين الذين لم يفهموا – لسبب أو لآخر – مضامين الاتفاقية.
3- الحركى كلمة جزائرية دارجة, معناها " الخونة ", و هي تطلق على الجزائريين الذين اختاروا طواعية القتال تحت راية الجيش الفرنسي ضد الثورة الجزائرية, بصفة مخبرين سريين أو جنود فرنسيين, كما كانوا يشكلون ميليشيات مسلحة, و قد ارتكبوا أعمال وحشية في حق عائلات مقاتلي جيش التحرير الوطني, من ذبح و نهب و اغتصاب.... و قد بلغ عددهم وفق بعض الإحصائيات نحو 120 ألف, تم طرد غالبيتهم الساحقة إلى فرنسا عند نهاية حرب الاستقلال, بينما لقي الكثير منهم نهاية مأساوية على يد الجزائريين, قبل و بعد التوقيع على اتفاقية إيفيان.
4- كريم بالقاسم (1922-1970), أحد المفجرين الأوائل للثورة الجزائرية, و أحد آبائها الأقوياء,عضو مجموعة الستة و قائد الولاية التاريخية الثالثة. عضو لجنة التنسيق و التنفيذ و عضو الحكومة الجزائرية المؤقتة و أحد الموقعين على اتفاقية إفيان. أغتيل عام 1970 بفارنكفورت الألمانية, و لا يزال الاعتقاد قويا بأن نظام الرئيس هواري بومدين هو من يقف وراء هذه التصفية.