Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
5 juillet 2013 5 05 /07 /juillet /2013 19:23

تحليل التغيرات السياسية – الاجتماعية في الجزائر و علاقتها بظواهر العنف

        أحيى الجزائريون الذكرى الـ51 لاسترجاع الاستقلال, في ظروف داخلية و خارجية, أقل ما يقال عنها أنها دقيقة جدا, إذ تتعالى أصوات هذه الأيام مطالبة بفتح نقاش وطني عميق و جاد, يجيب عن أسئلة جوهرية, تخص قدرة الدولة و المجتمع الجزائري على الصمود في وجه التحديات الداخلية و الإقليمية التي تهدد الجزائر بشكل جدي و غير مسبوق. و ليس مرد هذه الدعوات إلا حالة الشلل التي تعيشها مؤسسات البلاد, و التي زاد تخبطها بعد مرض الرئيس, إضافة إلى حالة الانسحاب الغريبة التي تعيشها النخب الفكرية و الأكاديمية. ثم إن الشعور العام للمواطن الجزائري البسيط, الذي ظل مغيبا عن توجيه مصير بلده هذا, يدفعه ليحس فطريا بأنه على مشارف الدخول في حقبة جديدة من مسار تاريخه, و هو إحساس لا يكون في العادة مطمئنا لنا كجزائريين.

إذا ألقينا نظرة سريعة على أهم المحطات و الأطوار التي عاشتها الجزائر, سواء قبل أو بعد الاستقلال, نلاحظ أن تلك المحطات – على العموم – ظل يجمع بينها عنصر لا يكاد أثره ينجلي على مرحلة تاريخية معينة, حتى يظهر في المرحلة التي تليها كعنصر أساسي يوجه أحداثها, و هو '' أحدث العنف ''. و بقدر ما قد تحدثه هذه العبارة من حذر أو تحفظ في نفس قارئها, إلا أننا و بعد نصف قرن من الاستقلال, صرنا مجبَرين على النظر إلى المسار الطويل الذي تشكلت من خلاله الأمة الجزائرية بنظرة واقعية ناقدة إلى أقصى الحدود. خاصة و واقع الحال و الأحداث, بالنسبة لنا نحن جيل الاستقلال, يؤكد لنا أن مظاهر العنف السياسي و الاجتماعي قد طبعت ذاكرتنا منذ أحداث التسعينات, و لا نزال نرى مخلفاتها هنا و هناك في خضم واقعنا السياسي و الاجتماعي المقلق, مما يدفعنا لنتساءل: لمَ هذا العنف السياسي و الاجتماعي الذي صار و كأنه صفة ثابتة لهذا البلد ؟, ما هي جذوره و خلفياته تاريخيا ؟, لمَ لم نستطع تخطيه حتى الآن ؟, و كيف يمكن البدء في مواجهته و تفادي أخطاره الداهمة ؟.

حلقات العنف و العنف المضاد كإرث نفسي – تاريخي.

إن الدارس لتاريخ الشعب الجزائري, سيلاحظ الكم الهائل من العنف و الاعتداءات التي تعرض لها منذ تاريخه القديم, و لعلنا نجد مؤشرات ذلك عند البحث في سيكولوجية الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض منذ أكثر من ثلاثين قرنا, فيجعلنا نلاحظ أنه ظل يتميز بصفتين أساسيتين و هما: تعصبه للأرض و العِرق ضد العنصر الأجنبي كمشروع هيمنة سياسية أو عسكرية, و مشكلة الخضوع و الالتفاف حول الأنظمة المركزية الشاملة – و هو ما يسميه ابن خلدون بالعصبية –, سواء كانت داخلية, كمشروع الملك ماسينيسا الجريء, الذي حاول قبل أكثر من ألفي سنة توحيد قبائل نوميديا حول نظام سياسي واحد, على أمل قطع الطريق أمام أي احتلال عسكري خارجي مباشر في هذه البلاد. أو أجنبية, و التي تمثلت في موجات الغزو و الاحتلال الكثيرة التي مرت على هذه البلاد.

و في الحالتين, فإن هاذين العاملين, كانا سببا في اضطرابات العنف الناتج عن محاولات السيطرة على الأرض و إخضاع الإنسان التي عرفتها الجزائر, من الحروب البونية إلى الاحتلال الفرنسي, و هو ما نتج عنه, تاريخيا, موجات لا تكاد تنتهي من حلقات العنف و العنف المضاد, و ما صاحبها من اعتداءات و جرائم و تنكيل و إذلال للإنسان المحلي, و التي راحت تتكدس في لا وعي أجيال متلاحقة من الجزائريين, و بالضرورة فإن عمل قرون من الحروب و الاضطرابات السياسية, مع ما صاحبها من عدم الاستقرار اللازم في نمط عيش السكان, قد حرم المجتمعات المحلية من تشكيل البنيات السيكوسوسيولوجية الراسخة نسبيا عبر الزمن, و المتجددة دوريا, عبر تطوير نماذج سياسية و اجتماعية و حضارية متماسكة و متمددة عبر الجغرافيا و الوقت, تلك الاضطرابات التي هدرت الكثير من الطاقة الحيوية و الإبداعية لهذا الشعب, التي صبت بشكلها العام و طيلة قرون من الزمن في رد العدوان الأجنبي, و الكفاح من أجل الاستقلال عن النظم السياسية و الإدارية المركزية المهيمنة.

إن الضابط الفرنسي الذي كتب عام 1947 يقول بأن احتلال فرنسا للجزائر قد كلف الفرنسيين 75 عاما من الحروب, يعطينا صورة واضحة عن حلقات العنف و العنف المضاد الذي أنتجه آخر غزو أجنبي للجزائر, إذ تجب الإشارة إلى أن هذا الغزو كان الأعنف و الأشرس و الأخطر على الإطلاق, بسبب الوسائل الحربية و العلمية التي سخرها من أجل مشروع الإخضاع و المسخ. و دعونا هنا نشير إلى المظالم التي جلبتها فرنسا على الجزائريين طيلة 132 عاما من الاحتلال, و التي شكلت إرثا نفسيا ثقيلا في الضمير الجمعي للمجتمع, بسبب الفضاعات التي ارتبطت بها, من ترهيب و تنكيل و إفقار و إذلال مادي و معنوي مركز, خلق بدوره أنماطا سلوكية تجمع الجزائريين بعضهم ببعض, تتسم هي نفسها – في الغالب – بنوع من الانغلاق و الصراعية و حتى القسوة, التي كانت تشكل نماذج نفسية و سلوكية عامة, لا تقوم بوصفها ميزات راسخة في طبيعة الإنسان الجزائري, بقدر ما تظهر كونها نماذج تتغذى رجعيا من الأوضاع القاسية و الطارئة القائمة أو المفروضة عليه, التي يُضاف لها قلة الوعي السياسي و الثقافي أو حتى انعدامه إلا وسط أقلية نادرة, فيظهر ذلك في إلإرث التربوي للمجتمع خلال السنوات الأخيرة لثورة نوفمبر مثلا, بدءً بالبيت و المدرسة القرآنية, وصولا إلى خلايا النضال و الثورة. و ما الانحرافات التي عرفتها حرب التحرير, كقضايا المؤامرات و الانقلابات و العصيان, أو انزلاقات العنف و الانتقام كما حدث في قضية '' ملّوزة '' 1957 مثلا, أو الفضائع التي كانت تسجل بين الجزائريين من أنصار الثورة من جهة و أنصار النظام الاستعماري ( الحركى ) من جهة أخرى – رغم كل المبررات السياسية و الإيديولوجية التي يمكن أن تبرر بها – إلا أمثلة بسيطة, تؤكد على أن لظاهرة العنف جذور نفسية تاريخية, مرتبطة بالأزمات و الاضطرابات التي عاشها المجتمع الجزائري على امتداد العقود.

دولة الاستقلال... أو عندما تغذي عقد النقص الموروث العنف السياسي المستمر.

لقد ترك الإذلال الممنهج الذي مارسته فرنسا على الأهالي آثارا بارزة في الطريقة التي يفكر بها الإنسان في هذه البلاد, بحيث أن العنف المباشر كالنهب و التهجير و القتل, أو غير المباشر كالحرمان السياسي و الاقتصادي و الثقافي, الذي تم صبه على خمسة أجيال متلاحقة من الجزائريين, قد صاغ بقوة مفاهيمها المجردة تجاه مصطلحات مثل القوة أو الهيمنة أو الجاه, صياغة لم تكن سليمة في الغالب. فبقدر ما غذى هذا التفاعل النفسي الاجتماعي الموروث عقدة النقص تجاه الآخر, الذي ظهر في صورة الأجنبي المستبد المتمكن من كل وسائل الرفاه و القوة و القمع, و التي أدت بدورها إلى ظهور أولى بوادر الكفاح النوفمبري, إلا أن نفس عقدة النقص تلك, قد شكلت في المسار الذي أخذته الثورة الجزائرية إحدى أسوأ عيوبها, و التي ورّثتها مباشرة و دون تأمل أو نقد ذاتي إلى دولة الاستقلال, حيث تجلّت في أشكال العنف المسلح التي ميزت أزمة صائفة 1962, و التي حولت بكل أسف ولادة الدولة الجزائرية الفتية من ولادة طبيعية إلى ولادة قيصرية, جاءتنا بدولة عسكرية منغلقة و عنيفة.

بل إن المفكر الراحل مالك بن نبي, كان في دراسته لمشاكل الشبكات العلائقية في المجتمعات المستقلة حديثا, قد تفطن إلى هذه الظاهرة التي عبر عنها بمصطلح '' الهبوط في الروح الثورية '' و التي وصف بها تلك النزعات الفردية السلبية, التي تخمرت في صمت طيلة سنوات الكفاح, لتنفجر بعد الاستقلال, و التي كان أبطالها ممن يُحسبون في العادة على التيار النضالي أو القومي, الذين وجدوا أنفسهم في اختبار حقيقي, لتجسيد المبادئ الأخلاقية التي تبنوها كأهداف سامية و دافعوا عنها خلال سنوات الكفاح, كبناء مجتمعات تسودها العدالة الاجتماعية و إقرار الديمقراطية, فإذا بهم أول من يلتف حول تلك المبادئ و ينتهج العنف العسكري و السياسي سبيلا للوصول إلى السلطة, أو الاحتفاظ بها, استجابة لنزعات فردية دفينة, حجبت تفكيرهم النقدي بشكل كامل, فيلخص إذن بن نبي تصوره بالقول أن كل علاقة قاسية بين الأفراد, تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن تحطم أعمالهم الجماعية. و يبدو أن هذا كان مصير العمل الثوري الجزائري للأسف الشديد !.

و المواطن الجزائري في هذا الصدد, يحتفظ في ذاكرته بأمثلة قادة ثوريين, جعلوا من موضوع الشرعية الثورية حلبة صراع عنيف بين بعضهم البعض, تماما كما يتشاجر الصبية الصغار حول دمية كانوا قد وحدوا جهودهم من قبل لشرائها أو الحصول عليها, بحيث يكون دافع الصراع هو الفكرة و مبرراتها التي تتشكل في ذهن كل واحد منهم عن الدمية, بوصفها شيئا خاصا به, عندما يستسلم لإغراء التملك عليها, أكثر من محاولة رؤية حقيقتها في واقعه الجماعي, و هو انعكاس مباشر لمشكلة التمركز حول الذات التي ظل يعيشها الجيل الثوري. بل إننا نلاحظ أن الصراعات التي نشبت بين قادة الدولة و امتدت إلى فئات مختلفة من المجتمع بعد الاستقلال, قد كشفت لنا أنه لم يتم الترفع حتى عن أساليب المواجهة و القمع التي خلفتها دولة الاحتلال وراءها, بل استخدمها الجزائريون – بكل أسف – ضد بعضهم البعض ( كما حدث في حلقة العنف و العنف المضاد التي عشناها سنوات التسعينيات ), بغض النظر عن الحجج و المبررات. و هو ما وضع المبادئ الأخلاقية لثورة نوفمبر نفسها على المحك في الوعي الجمعي, وصل بشباب هذه الأيام, المُحبط تماما من المشروع الوطني, إلى التشكيك في جدوى طرد فرنسا من الجزائر !. فبهذا الهبوط في الروح الثوري و الانحدار إلى ثقافة العنف السياسي, تم بالكاد قتل الجانب المقدس من فكرة الثورة نفسها من طرف الكثير من أبنائها, و تم رهن استمراريتها في مشروع بناء دولة الحرية المنشودة, و إننا لنعجب اليوم حينما نرى وجوها ثورية أو تاريخية, تلقي بكل اللوم على جيل الاستقلال, محملة إياه كامل المسئولية في التفريط في قيم أول نوفمبر ؟ !.

إنَّ تفحصنا للمسار الذي انتهجه النظام الحاكم بعد الاستقلال, و إلى جانب ظاهرة الانقلابات و صراعات الأجنحة التي ظلت – و لا تزال – تهزه بشكل دوري, مُلقية بحممها على الحياة السياسية و الاجتماعية في البلد, نجده قد أعاد إنتاج نماذج الحرمان و الإقصاء السياسي, الاقتصادي و الثقافي, التي كرسها الاحتلال الفرنسي نفسه, و هو ما يؤشر فعلا على وجود عقدة تعلق الضعيف المضطهَد بأساليب و سلوكيات القوي المضطهِد, التي أوجدت أشكالا متجددة من الانغلاق و القمع, تبررها حاجات داخلية دفينة. و لِظاهرة التشبث المرضي بالسلطة ( غنيمة الاستقلال الكبرى ), التي ميزت الجيل الذي عاش أو شهد حرب التحرير, و الطرق العنيفة التي ظل ينتهجها للاحتفاظ بها, تفسير نفسي و اجتماعي يصب في نفس سياق ما ذكرناه حتى الآن. و للأسف فإننا لم نستطع إلى اليوم تخطي هذه المرحلة بالسلاسة المطلوبة, بسبب إصرار الجيل السابق, ليس فقط على الاستمرار في الوصاية على الأجيال الفتية باسم شرعيته الثورية, بل و الاستمرار في الحكم بأسلوب صار يمثل – قياسا إلى معايير تسيير الدول في هذا العصر – شكلا شاذا و خطيرا من أشكال الحكم.

التنفيس الفوضوي و البناء المُعطل.

من المثير أن نلاحظ أنه و في كل مرة كانت تصل فيها مؤسسات الدولة أو المجتمع إلى أفق مسدود سياسيا, إقتصاديا أو اجتماعيا, إلا و يكون الحل هو الانحدار إلى سياسة الاستفزاز التي تنتج العنف السياسي و الأمني, سواء بشكل جزئي يمس مناطق محددة من الوطن, كما حدث في أزمات 1963, 1967, 1986, 2001, 2011. أو يكون لذلك العنف ارتدادات عامة و عميقة على كامل القطر, كانقلاب 1965 أو أحداث 1988 و ما تلى الانسداد السياسي لعام 1992.

و ليس مرد هذا إلا فشل دولة الاستقلال حتى الآن, في الخروج بمفهوم الدولة من منطق الأشخاص و العُصب, إلى منطق المؤسسات الدستورية القوية, و الممارسات السياسية السليمة الراسخة في الفكر الجمعي للنخب و المجتمع, الثابتة و المستمرة على الأرض و الواقع. فكل ما حصلنا عليه – للأسف – هو شبه مؤسسات تركزت فيها سلطات مركزية هائلة و '' مُغرية '', ظلت تسيطر عليها نخب متعددة, قائمة على منطق العلاقات الشخصية و الولاء و القرابة و الجهوية و المصالح المشتركة, تسير على مبدأ الضبابية و توازن القوى و النفوذ بين بعضها البعض, ما يؤشر على أن الانحراف الأول الذي وقع صائفة 1962 بسبب الهبوط في الروح الثوري و العداوات العالقة منذ سنوات الكفاح و حمى السلطة, و كل ما نتج عنه من اضطرابات سياسية, اجتماعية و أمنية عشناها طويلا, قد وصل في تطوره إلى ما نحن عليه اليوم من انسداد و ضغط و تخبط على جميع الأصعدة. و هذه الحقيقة تمثل حالة الدول و المجتمعات المكبوتة, التي تفتقر أساسا إلى أجهزة ضبط و تنظيم السلطات و قنوات التعبير و الاتصال و الحوار و الإقناع الملائمة, سواء بين النخب الحاكمة نفسها أو بينها و بين عامة الشعب, فإن أضفنا إليها ميزة الإنسان الجزائري التي ذكرناها في صدر هذا المقال ( افتقاده لمفهوم جماعي مقبول للسلطة - L’autorité et le pouvoir central , و العصبية التي تتجلى اليوم أساسا في ظاهرة الجهوية ), فإن الصورة تكتمل إلى حد ما.

و بما أن مفهوم الدولة الحالية قائم على تلك الأسس الشاذة التي ذكرناها, فإنه من الصعب جدا إيجاد طريقة مناسبة لتسيير و تنفيس ضغط النخب و المجتمع عندما يواجهان أي شكل من المطبات أو الإحباط أو التهديدات الداخلية و الخارجية, مع ضمان إتمام تشييد دولة الاستقلا بالهدوء و السلاسة المطلوبين.... إلا بطرق عنيفة, كحل نهائي لمشاكل الانسداد السياسي و الاجتماعي, إذ يتم غالبا هدم ما تم بناءه. أو لنقل إن هذا الانحدار إلى حلقات العنف, التي نعيشها كجزائريين دوريا كلما انغلقت آفاقنا, صار أشبه بحالة بناء فوضوي غير مكتمل عمره 50 سنة, في كل مرة يتم رفع أجزاء منه إلا و يضطر أصحابه إلى إعادة هدمه كلية أو هدم أجزاء منه لسببين هما: 1- أنه يُرفع في كل مرة دون الالتزام بالقوانين المتعارف عليها في الهندسة و البناء. و 2- اختلاف وجهات النظر بين أصحابه حول تصميمه و شكله و توزيع الغرف فيه.....الخ, فيتصارعون فيما بينهم, فيقوم تبعا لذلك كل فرد منهم و بشكل دوري بهدم الجزء الذي لا ينال رضاه و يعيد بناءه بحسب مزاجه و مصالحه الذاتية, دون أدنى اعتبار لمصلحة الجماعة في ذلك, أو في أسوأ الحالات فهم ينتهون إلى تصفية البناء كله من أجل البدء من الصفر. و النتيجة المنطقية لكل هذا هي تعطل في البناء مع ما يرافقه من تبديد للطاقات المادية و المعنوية لأصحاب المشروع, و عيوب تقنية دائمة تتكدس مع الزمن في البناية, قد تشكل تهديدا دائما على حياة السكان مستقبلا.

لعلنا نفهم الآن, و بعد نصف قرن من الاستقلال, و مع تفاقم مشاكلنا داخليا و إقليميا, أننا فعلا معرضون إلى الدخول في حلقة عنف و عنف مضاد جديدة, إذا لم تستطع دوائر صناعة القرار أن تحد على الأقل  من تمركزها القاتل حول ذاتها, و البدء في مواجهة الذات و الآخر للاعتراف بمكامن العيوب و النقص و بحث الحلول المناسبة, إن لم تكن شجاعة بما يكفي لتعترف بأخطائها الكثيرة. فجيل الشرعية الثورية ماض اليوم – بحكم قوانين الطبيعة – إلى الاندثار, و وحدها الأجيال اللاحقة ستتحمل كوارث إرثه الثقيل, و هنا تبرز فرصة النخب الفكرية و السياسية الشابة لمواجهة هذا الوضع بإبداعها و أفكارها و مبادراتها مع كل ما تخلقه من تفاعلات و حركية. و يجب أن نذكر أنفسنا ختاما بالحكمة التي تقول بأنه ليس عيبا أبدا أن نعود إلى بداية الطريق, إذا علمنا أن انطلاقتنا كانت سيئة أو أن اتجاهنا كان خاطئا. بدل الاستمرار في الترنح بالجزائر الحالية تحت شعارها غير الرسمي: '' من الشغب و إلى الشغب ''.

 علاوه أمير فنور.

Partager cet article
Repost0
15 décembre 2012 6 15 /12 /décembre /2012 15:09

Youtube

 

موقع يوتيوب كظاهرة ثقافية و إعلامية محركة للمجتمع المعاصر.

          في أيامنا هذه, لم يعد ممكنا التشكيك, في الدور الخطير الذي باتت تلعبه كبرى مواقع التواصل الاجتماعي, و التي صارت توصف بالدويلات الافتراضية, التي تضم ملايين المنتسبين إليها, و الذين يتبادلون اليوم قدرا مذهلا من المعلومات و الأخبار و الأفكار و التصورات, في مدى بات يُحسب على أساس الدقائق و الثواني, مما دفع بخبراء الإعلام إلى التلويح ببروز شكل جديد من عمليات صياغة فكر و اتجاهات أفراد المجتمع, عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي, يختلف في أسسه التطبيقية عما كان عليه الأمر قبل عقود قليلة, و لنأخذ في هذه العجالة موقع يوتيوب Youtube   كمثال... فماذا عنه ؟.

ما يعرفه عامة الناس عن هذا الموقع هو أنه مخصص لتحميل و مشاهدة الفيديوهات بشكل مرن و سهل لم يتوفر قبل عام 2005, عندما أسسه كل من شاد هارلي, جواد كريم و ستيفن شان, كمجرد نسخة تجريبية بسيطة, و كانت انطلاقته الفعلية كموقع '' كاسح '' سنة 2006, بعد قرار العملاق Google   شراءه من مخترعيه, بصفقة قيل أنها بلغت 1.65 مليار دولار أمريكي.

يكفي الإطلاع على الإحصائيات المختلفة التي يتم نشرها عن هذا الموقع دوريا, حتى ندرك حجم القوة التأثيرية التي بات يوتيوب يمثلها في حياتنا اليومية. فمثلا تقول إحصائية أن 60 ساعة من البث قد تم تحميلها في الدقيقة على يوتيوب شهر جانفي / ياناير 2012, و قد قفز هذا الرقم إلى 74 ساعة في الدقيقة شهر مايو 2012, و أنه في أكتوبر الماضي ( 2012 ) وصل المعدل الشهري لمشاهدة الفيديوهات على الموقع إلى 4 مليار ساعة, و هذه أرقام تدل على تحول هذا الموقع فعليا إلى أداة إتصالية و إعلامية تلعب دورا واضحا, ليس فقط في تكريس ثقافة الترفيه ( Intertainment culture   ) التي صارت ظاهرة عالمية, مع كل ما تحمله من قيم تربوية و أخلاقية مثيرة للجدل, خاصة إذا علمنا أن 9 من أصل 10 فيديوهات تحتل أعلى نسبة مشاهدة على الموقع هي في العادة كليبات موسيقية, لكن الأمر امتد إلى أن يصبح يوتيوب منبرا إعلاميا قائما بذاته, مكن من بروز أفراد و جماعات صارت تُسمع صوتها و تعبر عن أفكارها بكل قوة و بدون أية قيود, مع ظهور ثقافة المراسلين غير الرسميين ( أو ما اصطلح على تسميته بالمواطن الصحفي ), الذين أخذوا يزودون العالم بأخبار كل الأحداث التي تعرفها بلدانهم و بكل التفاصيل, مما سمح بتحويل هذا الموقع إلى ما يشبه حاضنة تفرخ كل أنواع الآراء و الاتجاهات و القناعات, و كلها معطيات باتت تؤثر, لا محالة, في الأحداث الداخلية و الخارجية لكل دولة تقريبا.

إذا ما أردنا فهم الجذور النظرية لقوة يوتيوب في صياغة آراء و توجهات جماهير اليوم, فعلينا أن نعود إلى مفهوم "القوالب النمطية" الذي سكه الصحفي الأمريكي W. Lippman   عام 1922, و الذي كان يفترض أن وسائل الإعلام و الاتصال في المجتمعات الديمقراطية التي لا يوجد بها قمع فكري صريح, يفترض أن تكون مجموعة '' قوالب '' يتم ملؤها بعقول عامة الناس, الذين يستهلكون المادة الإعلامية و يتفاعلون معها, بحيث يصبح تأثير المحتوى الإعلامي نفسه مساهما إلى حد كبير في صياغة فكر و رأي تلك الجماهير, وفق النمط المحدد الذي تتشكل به تلك القوالب نفسها, أو يُراد تشكيلها به ( أي علاقة التأثير و التأثر بين وسائل الإعلام و المجتمع ), و هو ما مكن لأستاذ علم نفس الاجتماع السياسي F.L Alportعام 1937 من القول بأن مصطلح الرأي العام يكتسب معناه الحقيقي حين يكون متعلقا " بموقف" يتخذه أفراد كثيرون يعبرون – أو يمكن دعوتهم للتعبير – عن شخص أو فكرة أو موضوع ذو أهمية واسعة النطاق, تتعلق بتلك الجماعة من الأفراد, إما بالقبول أو بالرفض.

 و يمكننا بالتالي ملاحظة الإمكانيات التي يتيحها يوتيوب لرواده اليوم, ليس فقط من أجل الإطلاع على المادة الإعلامية المتوفرة فيه ( بكل أنواعها و رسائلها ), بل و المساهمة في إثراء محتويات الموقع بما يثير اهتمام المنخرطين, و يتيح لهم و لغيرهم فرصة التعبير عن مواقفهم و آرائهم و اتجاهاتهم تجاه المواضيع محل الاهتمام, و هو أمر لا يساعد فقط هذه الجماهير على تشكيل اتجاهاتها و آرائها حول تلك الموضوعات, بل يعطي كذلك مؤشرا على الارتقاء بالرأي العام للجماهير إلى ما سماه الباحث Daniel Yankelovich بـ"القرار العام", الذي يكشف – حسبه – عن تفكير و تبصر أكثر, و مزيد من المشاركة في النقاشات و الجدل, يفوق في مستواه تلك المواقف الظرفية العابرة, التي يتخذها المجتمع في العادة, بناء على ردود فعل تستند إلى انفعالات وقتية, تزول مع مرور الوقت و يتغير معها موقفه تجاه المسائل المرتبطة بها.

فاتجاه اليوتيوب من هذه الزاوية, هو خدمة الموقف العام للجماهير, أكثر من خدمة الرأي العام, فهو يعمق من قناعات و اتجاهات الأفراد, و عمليا, يزيد من فرص تحرك و تجند الجماهير المتفاعلة حول المواضيع ذات الأهمية القصوى, من أجل خطوات أكثر واقعية و عملية من مجرد إبداء آراء عابرة, و هذا ما حدث مثلا فيما يسمى بالربيع العربي, حين لعب اليوتيوب دورا محوريا في تحريك شوارع و منظمات و حكومات في العالم, بما كان ينقله – و لا يزال ينقله عن الحرب السورية مثلا – من صور و أحداث و حقائق, ضلت تشكل مادة إعلامية دسمة, تتناولها كبرى الشبكات الإخبارية المؤثرة في صناعة الرأي العام في العالم, و لربما يتكشف لنا أحد الأهداف ذات الطبيعة الإخبارية و الإعلامية ليوتيوب في هذه النقطة بالذات, و هو تحويله إلى مصدر خام جد ثري لمختلف أنواع الأخبار, التي يشارك الشارع و المجتمع بذاته في صنعها أو نقلها ( خاصة في البؤر المتوترة ), لتقوم كبرى شبكات الأخبار بصقلها و تسويقها بأشكال مُنمطة, تضمن لها في النهاية أكبر الأرباح مقابل أقل التكاليف, دون الحديث عن مختلف الإسقاطات السياسية المنجرة عن تلك المعالجة الإخبارية و الإعلامية ؟.

إن ما يقوم به يوتيوب حاليا هو أشبه بإعادة صياغة السلوكيات الاجتماعية – الإعلامية للمجتمع البشري, لكن وفق أسس عالمية, خاصة بعد الانفجار التكنلوحي و الاتصالي الذي جاء به عصر العولمة, و الذي حول كوكبنا إلى قرية كونية موحدة تحت سلطة وسائل الإعلام – حسب مفهوم عالم الاجتماع و الإعلام M. McLuhan – لكن بالاعتماد على قوالب نمطية جديدة, تتخطى التصورات التقليدية حول مفاهيم الدولة الوطنية أو الحدود القومية أو الديمقراطيات المحلية...الخ – و هو ما لا يزال غائبا عن وعي نخبنا السياسية و الفكرية للأسف – فلا عجب أن الشخصيات و الشركات و الأحزاب و المنظمات التي فهمت قوته الحقيقية, تسارع اليوم لتأسيس قنواتها اليوتيوبية الخاصة بها, من أجل الترويج لنفسها و التعبير عن آرائها و نشر أفكارها و كسب المزيد من الاتباع و التفاعل معهم و رص صفوفها.....الخ, بل إن الأفراد العاديين – و هذا هو الجديد – يسيرون على نفس الدرب, و لنا أمثلة لا حصر لها عن آلاف الأشخاص عبر العالم, كانوا مجرد شباب أو مراهقين مغمورين, و عن طريق اليوتيوب, صاروا اليوم شخصيات شهيرة, في بلدانهم أو حول العالم, في ميادين مختلفة, كالرياضة و الغناء و التمثيل و الإبداعات العصرية غير الاعتيادية و ما إليها.

و مهما يكن من أمر, فإن يوتيوب و كغيره من مواقع الإنترنت المهيمنة, مجرد وسيلة, يتحدد نفعها أو ضررها بحسب أهداف و خلفيات و طبيعة من يستخدمها, كأفراد أو جماعات مميزة أو حتى مجتمعات, فهو إما وسيلة دعائية إيجابية لنشر الحقائق أو الترويج للأفكار و الثقافات و البلدان المختلفة, و فضاء رحب للالتقاء و الحوار و تبادل الآراء و المنافع و المبادرات الجيدة و إبراز الكفاءات و المواهب في كل المجالات, و إما وسيلة لنشر الفتن و الأباطيل أو الألاعيب السياسوية و فضاء لكل أشكال التشهير و السب و التجريح و نشر الأفكار المتطرفة أو العنصرية.

علاوة أمير فنور

Partager cet article
Repost0
20 mai 2012 7 20 /05 /mai /2012 15:03

ظاهرة الأنوميا و أزمة المؤسسات و المجتمع في الجزائر.

يذكر بعض من كبار السن في مجتمعنا أنه في سنوات السبعينات و الثمانينات, كان الاعتراف بتعاطي المخدرات   أو الخمور جهرا, يُعد فعلا شائنا يدل على أن صاحبه قد بلغ درجة من الوقاحة و الحماقة التي يستحق عليها العقاب الشديد و ليس فقط الانتقاد أو التنديد. كما يذكر هؤلاء من الجيل السابق أنه يوم كانت الجرائد تَكتب عن حادثة إقدام شاب في مقتبل العمر على شنق نفسه, فإن الدنيا كانت تقوم و لا تقعد بسبب " هول " هذه الحادثة التي كانت تهز المجتمع هزا, كما كان المرء وقتئذ يستحي و يخاف من القول بأنه قدّم رشوة لفلان أو طلبها منه مقابل خدمة ما, بل يُبقي الأمر سرا بينه و بين نفسه اتقاءً لعقاب المجتمع قبل عقاب الدولة, أما قصة هؤلاء الذين ينهبون المال العام نهارا جهارا بدون رقيب و لا حسيب.... فهذا لم يكن ليتصوره أحد في تلك الفترة.

و من المذهل اليوم و بعد مرور عقد التسعينات المليء بالفوضى الأمنية و السياسية و المؤسساتية, أن نجد أنفسنا أمام واقع معكوس تماما يتخبط فيه المجتمع الجزائري, بلغ درجة حيث لم يعد فيها مكمن هذا الذهول الذي ينتاب المراقبين و الدارسين للوضع الجزائري, في الآفات التي تنخرنا ليل نهار, بسبب أنها صارت ما يُشبه الواقع الطبيعي أو العادي الذي نعيشه و نتعايش معه يوميا و كأنه قدر محتوم ( و هذا نفسه يُعد مؤشرا مُقلقا ), بل سبب الذهول يكمن في " الشذوذ " الذي ما فتئ يتولّد عن تلك الآفات نفسها, ليزيد في عجز المجتمع و مؤسساته ( أو الواجهات التي يُفترض أنها تمثله ) في التعامل معها. أي أن مختلف الآفات التي جاءت كنتيجة مباشرة للأزمة متعددة الأوجه التي عصفت بالبلد سنوات التسعينات, صارت هي نفسها تولّد ظواهر أكثر غرابة و تعقيدا, كعمليات السطو التي يقترفها أطفال و مراهقون على الأشخاص أمام مرأى الجميع و من دون أدنى رد فعل من طرف المواطنين, و هذا إن دل على شيء, فهو يدل على أن المجتمع الجزائري قد بلغ درجة من العجز و التخبط داخل هذه الدوامة الكبرى لم يصلها في أحلك فتراته التاريخية, و هذه الدوامة هي ما يُسمى في الأوساط الأكاديمية بـ" الأنوميا " أو أزمة " اللامعيارية ". فما هي هذه الآفة و كيف تنشأ و ما هي أسبابها و ما واقعها في الجزائر؟.

يرجع أصل كلمة أنوميا إلى الكلمة الإغريقية Anomie   التي تعني " انعدام القانون " أو " انعدام الثقة " أو " حالة البلبلة و الشك " التي يسببها غياب سلطة القانون. أما في العصر الحديث فقد كان رائد المدرسة الاجتماعية الغربية " إميل دوركايم E.Durkheim   " أول من وضع هذا المصطلح   عام 1893 في كتابه " تقسيم العمل " ثم طوره من بعده " روبرت ميرتن R.Merton   " سنة 1957 في سياق النظريات المفسرة للظواهر الاجرامية. فمصطلح الأنوميا الحديث يعني بشكل عام " انعدام المعايير ", و هو يرتبط مباشرة بالنظم المعيارية التي تنبني عليها مختلف مظاهر التنظيم الاجتماعي, التي تسير مجتمعا بشريا معينا, و التي تتجسد في مختلف المؤسسات أو الهيئات التي ترتبط مباشرة بذلك المجتمع الذي توجد فيه و من خلاله, عن طريق نوع من العقد الاجتماعي القائم على أساس الثقة و التقبل و التفويض الذي تحصل عليه تلك المؤسسات, من أجل تسيير شبكة العلاقات و المصالح المتشعبة داخل المجتمع أو الدولة في إطار النظام و القانون, و الذي بدوره يكفل للجميع حقوقهم و يوزع عليهم واجباتهم بشكل عادل و منصف يضمن لهم تحقيق أهدافهم في الحياة, بحسب وضع و مكانة و مؤهلات كل فرد, إذ يكون ذلك هو المبتغى النهائي لتلك المنظومة المعيارية.

فأي خلل قد يصيب هذه المنظومة المشكلة للمعايير التي تنظم و تسير المجتمع, يؤدي مباشرة إلى اختلال البناء الاجتماعي ككل و من ثم ظهور الأنوميا, و هذا بالضبط ما يعبر عنه الكاتب " عايد الوريكات " شارحا وجهة نظر دوركايم بهذا الخصوص, عندما يقول بأن ظاهرة الأنوميا أو اللامعيارية هي " النتيجة الحتمية لفشل المعايير الاجتماعية و الظروف المجتمعية في ضبط نشاط أعضاء المجتمع ", فتلك الظروف المجتمعية تعجز عن قيادة الأفراد إلى مواقعهم المناسبة في المجتمع, فتنشأ عنها صعوبات التكيف الاجتماعي, و هذا بدوره يؤدي إلى الإحباط و عدم الرضا عن المنظومة الاجتماعية, و من ثم يكون فاتحة لتطور تدريجي – تراكمي لمفاهيم جديدة ذات مضامين " صراعية أو ثأرية ", تؤدي في النهاية إلى انتشار الفوضى من خلال سعي بل تسابق الأفراد إلى تحقيق أهدافهم المشروعة بطرق غير مشروعة – بما أن مؤسسات المجتمع تكون عاجزة عن تنظيم أدوارهم – و هو ما يؤدي إلى الانحراف و التمرد على القانون, الذي يأخذ عادة طابع التبرير لتلك السلوكيات المنحرفة من وجهات نظر شخصية ذاتية, بعيدة عن النضج الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي للفرد الأنومي, الذي يُعبر في هذا النموذج النظري عن شذوذ فكري و سلوكي, يتكون و يظهر بسبب خلل في البناء الاجتماعي أو الثقافي المهيمن و ليس بسبب الفرد في حد ذاته.

و يُجمع علماء الاجتماع و الإجرام على أن ظاهرة الأنوميا أو أزمة غياب المعايير, تنشأ و تتطور داخل أي مجتمع في عدة حالات ترتبط بالتطور السياسي و الاجتماعي و الثقافي لذلك المجتمع, و في العادة تكون بسبب أحداث طارئة و كبرى أو تغيرات سريعة و جذرية يتعرض لها المجتمع, إذ يظهر ذلك جليا في حالات الحروب الأهلية التي تنهار فيها سلطة الدولة المركزية, أو الأزمات الاقتصادية كحالات الكساد الكبير أو المراحل الانتقالية السريعة و غير المضبوطة كالانتقال من نظم سياسية و اقتصادية معينة إلى أخرى جديدة, بحيث تخلق كل هذه الحالات السابقة حالة من الفوضى و عدم الثقة بل و حتى الاعتراض و المقاومة داخل المجتمع, الذي يجد نفسه في هذه الوضعية الصراعية عاجزا عن التبني أو الإدماج الجماعي السلس للمفاهيم و التصورات الجديدة التي تنشأ عن تلك الحالات, بسبب البلبلة و الشك الذي ينتج عنها, و عدم ملاءمتها لتصوراته الثابتة نسبيا حول ما يجب أن يكون عليه.

و الكثير من الأمثلة التاريخية تبين بشكل جلي الخطر الذي تمثله مثل هذه التغيرات الدراماتيكية على استقرار المجتمع, فالكساد الاقتصادي العظيم الذي ضرب الولايات المتحدة عام 1929 مثلا, نتجت عنه أزمة معايير و غياب لسلطة القانون, تسببت في انتشار موجة رهيبة للجريمة المنظمة, عصفت بالولايات المتحدة قرابة العقدين من الزمن,  و قد كلفت مكافحة المنظمات الإجرامية الأمريكية التي تغوّلت في تلك الفترة من أجل تقليص نفوذها و تحرير المؤسسات الاقتصادية و السياسية منها, ملايين الدولارات و مئات الأرواح و هي لم تنجح في ذلك بشكل كامل.

واقع ظاهرة الأنوميا في الجزائر:

بالعودة إلى الحالة الجزائرية, فنقول أنه لا يمكن فهم الظاهرة الأنومية في الجزائر دون العودة إلى السياق التاريخي – القريب على الأقل – لتطور المجتمع الجزائري, فنشير إلى التراكمات البطيئة التي عاشتها الجزائر منذ الاستقلال, و التي بدأت بالانطلاقة السيئة للجمهورية الفتية ( الانقلاب على حكومة بن يوسف بن خدة المؤقتة ), الذي فتح الباب منذ ذلك الوقت على أشكال الممارسات السياسية غير السوية " المُبررة " بأسباب ربما تبدو في الظاهر سياسية, إلا أن أحد التفسيرات الموضوعية لها يعود بنا مباشرة إلى " طبيعة و تكوين " إنسان العالم الثالث التي لا مفر من إنكارها, و التي أثبتت في أكثر من مثال و في أكثر من دولة عجزه عن التحكم في " شهوة الكرسي ", و يبرز ذلك جليا في الحالة الجزائرية من خلال النمط الذي ميز صراعات قادة جبهة و جيش التحرير الوطني صائفة 1962 حول اقتسام مغانم الاستقلال, و الذي عرف بروز الزمر و التكتلات – إن لم تكن موجودة قبل ذلك – و هو ما انعكس على مسيرة دولة الاستقلال لاحقا.

و بالرغم من أن النظريات المفسرة لأزمة الأنوميا ترجع اسبابها إلى حالة النظام الاجتماعي و ليس إلى الفرد في حد ذاته, إلا أن الفرد النافذ أو المجموعة الصغيرة النافذة عندما يعتديان على المعايير المُتفق عليها, فقد يُمهد ذلك للوضع الذي ستتشكل من خلاله الحالة الأنومية مستقبلا.

لقد كان لإتباع و تعزيز نهج الحزب الواحد و الاشتراكية سنوات السبعينات انعكاسات واضحة على الطريقة التي يفكر بها المجتمع الجزائري عموما, إذ أنها شكلت الأرضية الخصبة لكل الممارسات الشعبوية و البيروقراطية التي ظلت تتأصل شيئا فشيئا في الوعي الجمعي للناس, سواء حكاما أو محكومين, إلى أن جاء انهيار أسعار النفط في الأسواق الدولية أواسط الثمانينات, ليأتي رد فعل المجتمع – ظاهريا – على انهيار الاقتصاد الوطني المُعتمد على المحروقات, عبر أحداث الشرق الجزائري في 1986 و أحداث أكتوبر 1988, و التي مهدت لانفجار الوضع السياسي في جانفي 1991, عندما فشلت عملية الانتقال من النظام و الفلسفة السياسية التي اتبعتها الجزائر منذ استقلالها إلى الفلسفة السياسية التي فرضها الواقع, و التي كانت جديدة على مؤسسات الدولة نفسها قبل أن تكون جديدة على المجتمع, تلك المؤسسات التي أصبحت غير قادرة على جعل الدولة و المجتمع يتأقلمان مع المتطلبات السياسية و الاقتصادية و الثقافية التي ميزت المحيط الدولي ( بعد انهيار المعسكر الشرقي ), بعجز النخب الجزائرية الحاكمة عن استدماج المعايير الجديدة التي فرضتها ضغوط المرحلة, فكان أن انهارت المؤسسات الدستورية في الدولة و انتشر العنف و غابت القوانين, فدخل المجتمع الجزائري مرحلة الفوضى العارمة التي ولدت أزمة ثقة عميقة, جاءت بأزمة الأنوميا كنتيجة حتمية.

و بالرغم من أن عقد التسعينات قد مضى و أن الاستتباب النسبي للأمن أصبح واقعا, إلا أنه لا يمكن أن نجد اليوم مواطنا جزائريا واحدا يمكن أن يجادل في مخلفات سنوات الفوضى التي مر بها البلد, و السبب في ذلك هو أن حالة الفراغ المعياري و القيمي التي ميزت تلك المرحلة, قد سمحت بظهور أشكال و أنواع لا حصر لها من الانحراف الفكري و السلوكي لدى الجزائريين, و يمكن تلمّس هذا الواقع داخل المجتمع الحالي من خلال عدة ظواهر واضحة للعيان, و لشرح واقع الأنوميا الذي يتخبط فيه مجتمعنا و مؤسساته بشكل مبسط ( استنادا إلى النظرية العامة للأنوميا ), نشير إلى ثلاثة أسس عامة تتسبب في انتشاره و تعزيزه بإسقاطها مباشرة على الواقع الجزائري:

أولا: إن الأهداف و الطموحات التي يسعى إليها الفرد الجزائري الحالي و خاصة الفرد الشاب, أصبحت لا تتماش و القدرات و المقومات السياسية, الاجتماعية, الثقافية و الاقتصادية الحالية التي تتوفرعليها الجزائر, و هو ما خلق هوة واضحة بين هذا الفرد الذي رضع من العولمة و تأثر بثوراتها و قيمها, و الواقع الجزائري المُتخلف في الجوانب السالفة الذكر.

ثانيا: إن المعايير الاجتماعية التي كان يُفترض بها أن تحكم مسيرة الأفراد لتحقيق اهدافهم و طموحاتهم وفق قدراتهم و مؤهلاتهم, أصبحت شبه غائبة في المجتمع, و هو ما أفسح المجال لسيطرة منطق الفوضى الناتج عن فقدان الثقة في القوانين المنظمة لسلوك المجتمع و مؤسساته.

ثالثا: إن الوسائل المؤسساتية التي يضعها النظام الاجتماعي الحالي, من أجل تمكين الأفراد من تحقيق طموحاتهم, صارت – على العموم – أكبر خصم للطاقات الخلاقة و البناءة و الكفاءات الحقيقية, ذلك أن هذه المؤسسات ظلت لعقود تعاني من مشاكل البيروقراطية أولا, ثم إن حالة اللامعيارية التي مر بها المجتمع الجزائري قد خلقت منظومة مشوهة, تسير وفق قيم غير سوية, تسمح في العادة للعناصر السلبية أو الانتهازية أو غير الكفئة بالوصول إلى تلك المواقع, و هو ما يؤدي بالمقابل إلى تشكل نوع من البيئة الضاغطة أو المهمِّشة أو العدائية تجاه العناصر الإيجابية, التي تتمتع بقدر من الكفاءة و المستوى الراقي و التناغم مع المتطلبات العصرية, التي يمكن لها إحداث الفرق في بناء الدولة و المجتمع على السواء, و هو ما يُعطينا أحد التفاسير الكثيرة عن الوتيرة البطيئة التي تسير بها البلاد في جوانب التطور السياسي و الاقتصادي و العلمي و الثقافي......الخ     ( إذا ما قورنت مع المقومات التاريخية و الطبيعية و البشرية للجزائر كبلد ), و كذا انتشار الرداءة في تسيير أمور المجتمع مؤسساتيا في جميع المجالات تقريبا.

نلاحظ إذن أن حالة الفوضى و الرداءة و الفكر الصراعي التي تميز مظاهر حياة الإنسان الجزائري اليومية و على جميع الأصعدة تقريبا, تؤشر إلى حالة التشوّه و التفتت التي يعانيها البناء الاجتماعي ككل, فالمنظومة المعيارية أضحت عاجزة بشكل مُقلق عن قيادة الأفراد إلى أماكنهم المناسبة في المجتمع بالطرق السليمة و النزيهة, و هو ما يعزز أكثر فأكثر حالة عدم التوافق و الاغتراب داخل المجتمع و الإحباط, التي تعزز بدورها مجموعة التصورات و القيم التي لا تزال تأخذ مكانها بقوة في الوعي الجمعي للجزائريين في السنوات الأخيرة, و هي قيم ليست سليمة, و لكنها تلقي بثقلها الشديد لتصوغ شكلا محددا من العلاقات الإنسانية داخل المجتمع, يتسم بسلوكيات منحرفة, تسيطر عليها قيم سلبية كقيم استغلال القوة و النفوذ و السلطة للهيمنة, أو الاحتيال على القانون و الغش و ثقافة الرشوة و غيرها, كطرق و أساليب غير مشروعة لتحقيق الأهداف و الطموحات المشروعة لدى مختلف الشرائح.

إن الانتشار المقلق لمظاهر الإجرام و السرقة و الاعتداءات و قطع الطرق و كثرة الاحتجاجات, و ارتفاع نسب الانتحار و انتشار الأمراض العقلية و العصبية, و مظاهر الهجرة غير الشرعية و هروب الأدمغة و الكفاءات نحو الخارج , و أزمة الانحلال الخلقي و الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة المختلفة.....الخ, كلها مظاهر لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى الظروف الاجتماعية فحسب, فهذه الظواهر تتكلم بنفسها عن حالة الضغط و الإحباط الشديد التي يواجهها الفرد الجزائري بسبب أزمة اللامعيارية, و التي جعلته هو الآخر يتخلى عن مجموعة التصورات الأخلاقية و المعايير التي يخضع لها سلوكه, في إطار البناء الاجتماعي العام, لأن هذا الأخير صار هو نفسه – كمار رأينا – المصدر الأول لتغذية الآفات المنتشرة حاليا.

و في المحصلة, لن نبالغ إذا قلنا أننا اليوم مجتمع أنومي بامتياز, و بأن كل مواطن جزائري مهما كانت مكانته أو مستواه هو إنسان أنومي بشكل من الأشكال و بمستوى من المستويات, و أن التحدي الأكبر يكمن في شجاعة الاعتراف بهذا الواقع و عدم التسليم به كقدر محتوم, ليعمل كل فرد ما أمكن بينه و بين نفسه من أجل إصلاح الذات قبل الصراخ بإصلاح المجتمع و مؤسسات الدولة, إذ كم من الأفراد الذين نلتقي بهم و هم يصيحون منادين بإنقاذ الوطن و إصلاح أمور المجتمع, بينما سلوكياتهم اليومية لا تمد بصلة للوطنية أو الوعي الاجتماعي بشيء, رغم وجود بصيص من الأمل في كل الأحوال, خاصة عندما نر مواطنين و شباب و مسؤولين جزائريين – عل قلتهم – من مختلف الفئات و المستويات, يقاومون بشدة مظاهر الانحراف و الفساد المنتشرة انطلاقا من أنفسهم, معتمدين في ذلك على مبادئهم الأخلاقية, رافضين أن يكونوا فاسدين و مفسدين باسم المجتمع و مؤسساته.

علاوه أمير فنور – البليدة في 17-05-2012.

 

Partager cet article
Repost0
31 janvier 2012 2 31 /01 /janvier /2012 17:04

matrix[1]

 ما يجب أن تعرفه عن قادة النظام العالمي الجديد و محركات البحث عبر الانترنت.  

عندما ألف الروائي البريطاني " جورج أورويل George Orwell   " رواية " الأخ الكبير " عام 1949, التي تحدثت عن نظام شمولي عالمي يراقب كل صغيرة و كبيرة في العالم, لم يكن القراء على علم آنذاك بأن بعض القوى العالمية و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية, كانت قد انطلقت عمليا في تنفيذ هذا المشروع الثوري, قبل صدور رواية الأخ الكبير ببضع سنوات, و بالضبط في عام 1943, و لم يكن أحد يُصدق إذاك بوجود نظام جاسوسي عالمي حديث يراقب كل المعلومات المتداولة عبر العالم, سواء عبر التلغراف, الهاتف, الفاكس و لاحقا عبر البريد الالكتروني, إلا عند اقتراب الحرب الباردة من نهايتها, عندما نشر الصحفي البريطاني " دونكان كامبل Duncan Campbell   " مقالة في عام 1988, أشار فيها إلى وجود نظام تجسسي غربي عملاق تحت مسمى " نظام إيشلون Echelon System   ", تقوده الأجهزة الأمنية الأمريكية و البريطانية, للتنصت و التجسس على جميع الرسائل و الاتصالات المتداولة عبر العالم, ليس لاعتبارات أمنية أو عسكرية فحسب, بل لأهداف سياسية و اقتصادية كذلك.

منذ ذلك الحين زاد يقين فئات من المجتمع بوجود مجتمع نخبوي سري حقيقيي, يقف خلف هذه الحكومات و يظم أقلية من أثرياء العالم المهوسين بنظريات السيطرة, يرغب في السعي الحثيث لتحويل مفهوم " العين التي ترى كل شيء " و الذي تتخذه هذه النخب شعارا لها إلى واقع ملموس و حقيقي, بعد أن بات عصر الرياضيات و التقنية يسمح بذلك, و بعدما فتح السقوط المُبرمج للكتلة الشرقية الباب على مصراعيه للنخبة العالمية, من أجل الانفراد الكلي بقيادة مصائر قرّات و دول و وشعوب, نحو ما بدا حينها عصر الانفتاح و التحرر الكلي من جميع أشكال القيود و الكبت و الاستعباد, التي مارستها الحكومات و الأنظمة السياسية و الاجتماعية القطرية, نحو مجتمع عالمي لا يحده أي نوع من الحدود, تم رسم معالمه تحت اسم النظام العالمي الجديد.

و وصولا إلى عقد التسعينات, فقد أحدثت الانطلاقة الصاروخية و غير المسبوقة للشبكة العالمية " انترنت", ارتدادات مست نمط عيش المجتمع البشري بشكل راديكالي, إذ عرف هذا المجتمع تغيرات فكرية و اجتماعية و ثقافية كبيرة في ظرف وجيز جدا, بحيث أنه و على امتداد عقدين من الزمن, عرفت البشرية تغيرات أسرع و أعمق – اجتماعيا و ثقافيا – مما عرفته طيلة الفترة الممتدة ما بين قيام الثورة الصناعية في بريطانيا إلى انهيار جدار برلين. الشيء الذي فرض على سعاة السيطرة إيجاد طرائق جديدة, للرقابة و ملاحظة و دراسة و فهم ديناميكية تطور المجتمعات في مختلف مناحي حياتها – خاصة الاقتصادية منها – على ضوء تأثر هذه المجتمعات بالحركية التي راحت الانترنت تمارسها عليها, و ذلك في سبيل صياغة الخطط و تبني الطرائق المناسبة للتعامل مع هذا المجتمع العالمي الجديد الذي أوجدته الانترنت, لوضعه تحت السيطرة دائما, لأهداف اقتصادية أساسا, تتبعها أخرى سياسية, اجتماعية, ثقافية....الخ.

لقد كانت أولى ملاحظات المتتبعين لتطور الشبكة العنكبوتية أواسط التسعينات, أنها لا تخضع لأي نمط محدد في توسعها الرقمي, و ذلك لكونها تتميز بخاصية إفساح المجال لأي شخص أو مجموعة او هيئة يُمكنها أن تترك بصمتها الخاصة في هذا التوسع و التطور المطرد, فآلاف الأشخاص و المؤسسات و من مختلف البلدان و القرات طفقوا يزودون الشبكة يوميا بمئات الآلاف من الوثائق و المنشورات و البرمجيات و وسائل الخدمة عبر الخط, من خلال تأسيس مواقع و مدونات في مختلف المجالات, و لم ينتظر العالم إلا بضع سنين ليرى هذه الشبكة و هي تتحول إلى أكبر فضاء للمعلومات و الاكتشاف و التواصل و التعبير الحر و المعاملات بكل أنواعها على الإطلاق. و هنا يطرأ السؤال الأكبر على الذهن, و هو الخاص بموقع النخب العالمية ( قادة النظام العالمي الجديد ) من هذه الثورة العظيمة, خصوصا إذا سلمنا بحقيقة أن التطور الانفجاري لشبكة الانترنت و عالم الويب, قد كرس حقيقة مفادها أن الاحتكار السابق للمعلومة و الحقيقة مهما كان نوعها و وزنها و معيارها قد صار من الماضي, و أنه اليوم يوجد واقع جديد يقول بأن اي شخص, مهما كان مستواه و انتمائه و موقعه الجغرافي, يُمكن أن يحصل على المعلومة و الحقيقة بنقرة واحدة على الفأرة, و أن المعيار الوحيد الذي يصنع الفرق بين شخص و آخر هو نوع تعامله مع تلك المعلومة و كيفية استخدامها و لأي غرض يتم ذلك الاستخدام, دون إغفال الفروق بين شخص و آخر أو مجموعة و أخرى في قدرة الوصول إلى المعلومات الصحيحة و الحقائق السليمة و التفاعل معها بالشكل الأمثل, و هنا – في نظرنا – يوجد أحد مفاتيح فهم العلاقة بين الانترنت و بين من يقودون العالم, و يحاولون رسم معالمه بما تقتضيه مصالحهم و أهدافهم النهائية. و في سبيل هذا كانت القاعدة و لا تزال بسيطة, و قد تم نقلها من عالم الصحافة و الإعلام إلى عالم الويب مع تغييرات في الشكل و ليس في المضمون و هي تقول: " من يتحكم في مصادر المعلومات و المعرفة... يتحكم في نمط سير الآراء و العقول ".

لقد كانت أولى الخطوات التي توحي بالتحرك غير المعلن لإخضاع سلوك شبكة الانترنت لنوع من الرقابة, و محاولة تنظيم عملها, أمام الضغط الهائل الذي صار يمارسه الرواد الباحثون عن كم لا يحصى من المعلومات و المعارف و الترفيه و التعارف و توسيع الآفاق, هو إيجاد ما يسمى بمحركات البحث, التي تعتبر في شكلها الصريح نوعا من البرمجيات, التي كانت تهدف في بادئ الأمر إلى تسهيل مهام رواد الشبكة في الوصول إلى أي نوع من المعلومات بكل سهولة, عن طريق إدخال الكلمات المفتاحية للبحث المراد تحقيقه, و في ذلك الحين كان من الصعب على البعض أن يتصور مثلا أن تكون تلك المواقع خاضعة لرقابة المؤسسات المخابراتية الأمريكية.

إن التسريبات الكبيرة التي هزت العالم في السنوات الأخيرة, و المتعلقة برؤوس الأموال الضخمة التي تضخها شركات استثمارية لتطوير محركات البحث عبر الانترنت, تكشف عن أن أكبر مواقع البحث على الشبكة, كمحرك غوغل العملاق و لواحقه مثلا, ترتبط بشركات استثمارية انشأتها وكالة المخبارات المركزية CIA   كشركة In-Q-Tel  , التي تم إنشاءها عام 1999 بهدف البحث عن الفرص الاستثمارية الواعدة, المتعلقة بالتكنولوجيات المتطورة و مواقع الانترنت, التي يمكن لها أن تصبح مواقع كاسحة, على شاكلة غوغل و فيسبوك و يوتيوب و غيرها, من أجل الاستثمار في هذه المشاريع الناشئة ( اختراقها ماليا و من ثم إداريا ), لجعل وكالة المخابرات المركزية الجزء الخفي منها. فمثل هذه الحقائق باتت من المسلمات حاليا, لذلك لن نفشي سرا إن قلنا أن أغلب و أكبر محركات البحث و ما يرتبط بها من خدمات كالبريد الالكتروني و المدونات و غيرها, الموجودة في أشهر المواقع, خاضعة لرقابة الأجهزة الاستخباراتية, لكون هذه الأخيرة شريكا في رأس مال الموقع, أو كمتعامل تجاري بالنسبة لمواقع أخرى, إذ صار بيع المعلومات و المعطيات الخاصة بمشتركي خدمات الويب للأجهزة الحكومية تجارة مربحة للشركات المشرفة على بعض تلك المواقع. و هكذا, فإن أمر وقوع أكثر المواقع شعبية في الشبكة تحت رقابة نظام إيشلون العملاق ( العين التي ترى كل شيء ) صار من المسلمات, و الأمر لا يتوقف عند هذا, لكنه أعمق بكثير, إذ ما الذي يمكن استخلاصه من طبيعة وجود محركات البحث في الشبكة ؟.

لقد كان مبدأ عمل محركات البحث البدائية سنوات التسعينات يقوم على أساس استعراض نتائج البحث, عن طريق ترتيب النتائج حسب عدد مرات ظهور المصطلح الذي يتم البحث عنه داخل الصفحة, و هو ما يفتح المجال للتشكيك في خلفية عمل محركات البحث نفسها, التي تبدو – إذا أخضعناها إلى هذا المنطق – و كأنها في الحقيقة وجدت لهدف آخر, و هو العمل كأدوات للسبر, تعمل على تشكيل أرضيات بيانية تخص أكثر المواقع المطلوبة التي يتم البحث عنها من طرف زوار الشبكة, و من ثم المواضيع و المعلومات المتعلقة بها, إضافة إلى عدد الأفراد و توزيعهم الجغرافي....الخ.

لكن و مع نهاية سنوات التسعينات, فإن برمجيات و أسس عمل هذه المحركات قد تغيرت و تطورت, لتتحول من العمل بمبدأ ترتيب النتائج حسب عدد مرات ظهورها, إلى مبدأ " تحليل العلاقات بين المواقع التي يتم البحث عنها ", و من ثم عرض تلك النتائج بحسب العلاقات المتقاربة بين المواقع, و هي التقنية التي اشتهر بها محرك البحث الأمريكي " غوغل ", و التي جعلت منه أحد أفضل محركات البحث على الإطلاق.

و في هذه النقطة يجب الاعتراف بأن هذا المبدأ قد حسن كثيرا من عمليات البحث عن أي نوع من مصادر المعلومات, كما جعل هذه العملية سهلة, سلسة و فعالة, و هي أشياء إيجابية تحسب للشبكة العنكبوتية. لكن التمعن في هذه الطريقة الجديدة التي تعمل بها محركات البحث و مقارنتها بالطريقة السابقة, يجعل ملاحظة مهمة تومض في العقل لوهلة, فماذا يعني الانتقال من استعراض النتائج بحسب عدد مرات ظهور كلمة البحث على المحرك إلى استعراضها بحسب العلاقات المتقاربة بين المواقع و بين كلمة البحث, خاصة إذا سلمنا بحقيقة السبر و الجمع البياني ذو الطابع الإحصائي لتوجهات و اهتمامات و خلفيات رواد الشبكة, كهدف غير معلن للشركات المشرفة على هذه المحركات... و من ورائها المؤسسات المخابراتية العالمية ؟.

إن الأسس البدائية التي كانت تعمل بها محركات البحث توحي بأن جمع تلك المعطيات كان يتم وفق أسس إحصائية " كمية " لا تراعي كثيرا – إما عن غفلة أو عن عجز في التقنية – التوجهات و الخلفيات المتشعبة أو الأكثر تعقيدا للجماهير المتصلة بالشبكة, فنحن نشعر بأن اعتماد المبدأ الثاني في طريقة عمل محرك البحث جاء ليسد هذه الطفرة, إذ يوحي بأنه مهما كانت أساليبه و أهدافه الإحصائية المتبعة, فقد صارت بشكل ما ذات طابع " نوعي ", و ذلك بتحليل العلاقات بين المواقع المستهدفة في البحث, و ربطها بخلفيات الشخص أو الأشخاص الذين يقومون بعملية البحث, و كلها تصب في بنوك المعلومات التي تشكل مستودعا حقيقيا للخطط الخام, ليس فقط ذات الطابع ألاستخباراتي و الأمني, التي تهدف إلى الوصول إلى التهديدات ذات الأنماط التصاعدية أو التنبؤ بها, بل و تتعداه إلى وضع القوانين المنبثقة عن هذه العمليات المرتبطة أساسا بتقدير درجة وعي فئات المجتمع على اختلافها, تجاه مختلف المسائل السياسية, الاجتماعية, الاقتصادية.....الخ, و هو ما يؤسس للقدرة على التنبؤ بسلوكياته و ردود أفعاله تجاه مسائل أو أحداث معينة مستقبلا, مما يجعل التعامل معه أكثر سلاسة و مرونة.

إن هذا النوع من الاختراق غير المعلن, يسمح في حقيقة الأمر بتطوير مستويات و أنماط جديدة من عمليات التدخل عبر الشبكة, لمواجهة أنواع التهديد الجديدة, التي أوجدتها الطبيعة الهلامية و المفتوحة لعالم الويب, و لكي نبسط هذا الأمر, نورد مثال هذا المقال بالذات, إذ أن البرمجيات التي تسير بها المدونات أو المنتديات التي سيظهر فيها مقالنا هذا, تحتوي في العادة على معاجم خاصة, فيها كل الكلمات أو العبارات التي تشير إلى المواضيع أو الأشياء, التي تدخل ضمن اهتمام و أهداف المؤسسات السرية التي تراقب الشبكة, و هذه المعاجم تتسم بتصنيفات معينة, منها ذات الطبيعة الأمنية مثلا, و التي في العادة ترصد كلمات او عبارات ذات مدلولات أمنية ككلمة " القاعدة " أو " الجماعة الفلانية المسلحة "....الخ, و منها ذات الطبيعة السياسية مثلا, و منها ما يدخل ضمن نظام مراقبة " وعي " الأشخاص و الجماعات تجاه الحقائق المرتبطة بما يُعرف بـ" نظرية المؤامرة ", فإن كان مقالنا هذا – على سبيل المثال لا الحصر – يدخل ضمن هذا التصنيف, فهو يضاف إلى مجموع كل المواد المنتشرة عبر الشبكة, و التي تخدم نفس الهدف, بحيث تقوم معالجات البيانات بحساب نسبة هذه المواد بمختلف لغاتها عبر الشبكة, و تقدير أعداد الأشخاص الذين يطالعونها مع توزيعهم الجغرافي, بل و ربما حساب النسب التقريبية للذين يمكن أن تترك في أنفسهم آثارا معينة, قد تشكل متاعب مستقبلية لخطط النخب, أي حساب و تقدير نسبة و درجات وعي المجتمعات تجاه مثل هذه المسائل وفق خصوصيات كل مجتمع و ظروفه الحالية و خلفياته المختلفة....الخ.

و لمواجهة هذه التهديدات المحتملة, لا يكون الرد عليها بالحذف أو التشويه أو ما شابه, بل بطرق اكثر سلاسة و هدوء, فببساطة, إن كان مقالنا هذا يحمل درجة تهديد معتبرة, إذ أنه يفتح أعين القراء على مسألة مثيرة لم يكونوا على دراية بها من قبل, و من ثم تشكيل نوع من الوعي بحقيقة الوجه الآخر للشبكة العنكبوتية, فإن اللازم – من منظور إحصائي – هو مواجهة هذا النوع من المقالات بعشر مقالات أخرى تتحدث في نفس الموضوع, لكنها تتضمن قراءات و مضامين ذات طبيعة التباسية و مشوشة, تربك العقل الباحث عن الحقيقة, و الذي قد يضيع في بحثه ذاك, إذ تتم زحزحته منهجيا عن الطرق الصحيحة و يتم تحييده في النهاية, فيجد نفسه على الهامش, و تكون محصِّلته هي معلومة واحدة صحيحة و تسع يلفهن التعتيم و اللبس, و هكذا يكون عقلا غير مؤثر.

هذا دون الحديث عن أخبار و صور نجوم كرة القدم و فضائح نجمات الغناء و ما شابه ذلك, التي تفيض بها الشبكة, و الموجهة أساسا إلى السواد الأعظم من الجماهير التي تم تشكيل وعيها لامتلاك الإرادة " المسبقة " في عدم معرفة شيء قد يضر مشروع العولمة بشكل جاد. لذلك نفهم الآن لماذا لا يمكن إطلاقا للمواقع و المواد ذات المضامين الهادفة أو المفيدة التي تنتشر عبر الشبكة, أن تكون أكثر من نظيراتها ذات الطبيعة المشوشة أو المربكة,  و هذا دون الحديث عن استحالة تغلب المواد الجادة و الترفيه الهادف على المواد السخيفة و الترفيه الهابط في الانترنت, و هذه السياسات لم يكن لها لترسم لولا المعطيات و البيانات الإحصائية, التي تقدمها محركات البحث لصناع القرار و المخططين الكبار بانتظام.

و تبرز مسألة اختراق حواسيبنا و عقولنا من طرف محركات البحث, فيما كان الناشط الأمريكي "Eli Pariser   " قد أشار إليه, و هو الجوانب السلبية " الخفية " التي تخلقها المبادئ اللغرتمية ( الخوارزمية ) غير الواضحة التي يسير بها غوغل و غالبية المواقع الكبرى, و التي لا تزال تحاط بكثير من التكتم من طرف مدراء هذه الشركات, فقد أورد هذا الناشط أن غوغل يحتوي على ما يشبه برنامج تعقب, يستطيع رصد 57 إشارة منذ اللحظة التي يدخل فيها الشخص إلى المحرك بحثا عن أي شيء, و من بين تلك الإشارات نذكر مثلا موقع الشخص أو المكان الذي يجلس فيه و نوع جهاز الحاسوب الذي يستخدمه, إضافة إلى المعلومات التي يبحث عنها, بحيث يتم تسجيل كل ذلك من طرف الموقع ليتم لاحقا " شخصنة " صفحة المستعمل على غوغل, إذ يصبح له صفحته الخاصة, التي تجعله يرى معلومات و يصل إلى روابط تختلف عما يظهر لدى الآخرين, و هنا مكمن اللغز. فلماذا تسلك محركات البحث هذه السلوكيات اللغرتمية الانتقائية, فتُصمم لكل شخص ما يراه على الشبكة وفق مقاسه الفكري و المزاجي و توجهاته الخاصة و من دون علمه, بدل التعامل مع جميع مستخدمي الانترنت بشفافية كاملة, و إفساح الفرصة للجميع للحصول على كل الخيارات البحثية المتوفرة, رغم الموضوعية التي قد تظهر بها الحجج المقدمة لمواجهة هذا السؤال, و المتعلقة أساسا بأهداف تسهيل عمليات البحث و جعلها أكثر فعالية.

يُطلق Pariser   على هذه الظاهرة اسم " الفقاعة المصفاة "The Filter Bubble  ", و قد ظهر هذا المفهوم بعد أن اكتشف خبراء الإعلام الآلي و الويب أن أشخاصا كثرا عبر الكوكب, يبحثون عن معلومة واحدة في وقت واحد, لكن كل واحد منهم يحصل على نتائج مختلفة ( كما و نوعا )عما تحصل عليه البقية, و ذلك يعتمد على أنماط السلوك التي يعتمدها كل واحد منهم في الشبكة, و التي ترسمها الأرضيات البيانية لمحركات البحث, بحيث يصبح المبدأ الخفي الذي تعمل به هذه البرمجيات مع مرور الوقت هو " عزل " كل شخص في فضاء الانترنت الخاص به ( فقاعته الخاصة ), في حين تعمل محركات البحث كمصفاة تحدد ما يراه و ما لا يراه خلال إبحاره عبر الشبكة, و فيما يظن أنه يتشارك مع الملايين في هذا الفضاء الديمقراطي الرقمي, و في الفرص المتكافئة في قدرة الولوج إلى المعلومات و الوصول إلى المعارف, فإن تلك المعلومات و الحقائق إنما يكون قد وصل إليها لوحده, و ستظل خاصة به ما لم يقم بتقاسمها و مشاركتها مع معارفه على الأقل, لآن تقاسمها مع جميع رواد الشبكة يبدو أمرا مستحيلا تقنيا.

و يذهب الناشط الأمريكي السالف الذكر مع كثير من المهتمين و الباحثين أبعد من ذلك, في تفسير سلوك الشبكة العالمية في مجال الإعلام و الأخبار و الاتصال الرقمي, إذ يخلصون إلى أن الانترنت, و إن كان في الظاهر يبدو كعالم لا تحده الحدود, أين يشترك جميع رواده في فرص الوصول إلى المعلومات و الأخبار و المعارف, إنما في الحقيقة هو عالم – و عن طريق محركات البحث – يعمل بشكل من الأشكال من أجل أن يعزل كل شخص عن البقية, خلف جدار رقمي مُصمم وفق ما يعتقد هذا الشخص بأنه الحقيقة, و الأمر ليس بالتعقيد الذي قد يراه البعض, فببساطة, فإن محركات البحث تقوم على نفس المبدأ الذي تعمل وفقه وسائل الإعلام و الاتصال الأخرى, الخاضعة لسيطرة النخب و خاصة في الغرب, و هو أن يُقدم للجماهير ما ترغب في رؤيته أو معرفته و ليس بالضرورة ما هي " في حاجة " لرؤيته و معرفته, و بما أن السواد الأعظم من هذه الجماهير قد تمت تربيته ليتوجه بإدراكه دوما نحو الهوامش الضيقة, و الانشغال بتوافه العصر باسم التحضر و الانفتاح..., فإن خدمة المحركات بصدد إعطائه ذلك و تحقيقه له, و من ثم فهي بصدد صياغة و تعزيز قيمه و تصوراته و موازين تفكيره في آخر المطاف, و جعلها في النهاية لا تشكل اي تهديد للتصورات النهائية للكبار, حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها المجتمع البشري في هذا القرن الجديد.

إن التفكير في هذه الحقيقة يجعلنا نرى أن الخدمات التي تقدمها لنا محركات البحث و لواحقها لا يقابلها الاختراق شبه المؤكد لبياناتنا و أجهزة الإعلام الآلي الخاصة بنا فحسب, و الذي يحمل الطابع الأمني أو الاستخباراتي, الذي تحاول النخب العالمية اليوم جعلنا نعتقد بأنه العنصر الوحيد الموضوع في الرواق الخلفي للانترنت و الويب, بل قد يظهر أيضا من خلال ذلك التغيير الذي قد تحدثه محركات البحث في مستويات تفكيرنا و إدراكنا للأشياء, إذا تركنا لها تلك الفسحة التي تمكنها من التحكم في تصميم ذلك الجزء الصغير, الذي قد نراه و ندركه على أنه صورة كاملة, بينما هو في الحقيقة مجرد جزء من أحجية أكبر بكثير مما نتصور.

و هكذا نصل إلى ما كنا قد أشرنا إليه في البداية, و هو أن السعي كله منصب على الوصول و التحكم في البوابات التي تمر عبرها كل أشكال المعلومات و المعارف, إذ أن الحصول على القدرة على تقنين عملها أو تنميط طرق سيرها وفق ما تقتضيه مصالح و خطط الأقلية النافذة, قد يعني بالضرورة ترك بصمة أخرى في عمليات صياغة وعي الجماهير, أو كما يسمونها هم " بالحشود ", و محاولة تركها دوما تحت أشكال و مستويات مختلفة من الرقابة و السيطرة, و التأكد من أنها بعيدة عن الحقيقة, بل و جعل تلك الأقلية التي تصل إلى الحقيقة معزولة, مشتتة, و غير قادرة على إحداث الفرق. و خلاصة القول هي أن عالم الانترنت و الويب و إن لم يكن هو نفسه العين التي ترى كل شيء, فلا بد من عمل المستحيل لجعله كذلك في فلسفة قادة النظام العالمي الجديد.

--------------

علاوه أمير فنور 

Partager cet article
Repost0
10 septembre 2011 6 10 /09 /septembre /2011 15:04

ist2_10093909-manga-emoticons-1-.jpg

ما الانفعال ؟.

منذ تأسيس أول مخبر لعلم النفس في ألمانيا العام 1879م على يد " ويليام فونت W.Wundt  " و علماء النفس يحاولون جاهدين الكشف عن أعمق حقائق النفس البشرية, من أجل الوصول إلى شروح وافية لمختلف الظواهر النفسية و العقلية التي تقوم عليها سلوكيات الإنسان, سواء كانت تلك الظواهر سوية أو شاذة.

و اليوم, و بعد مرور مائة و ثلاثين عاما على قيام علم النفس كعلم مستقل, ظهرت مذاهب و نظريات كثيرة و كبيرة ساهمت كل منها – طيلة تلك المراحل التاريخية – في إضافة لبنات جديدة إلى سرح هذا العلم, ما فتئت كل لبنة منها تساهم نسبيا في تحقيق الفتح العلمي تلوَ الآخر فيما يخص حقائق النفس و العقل البشري.فكانت متفقة على رؤية واحدة تارة, و كانت متناقضة و متواجه    تارة أخرى. إلا أن الحقيقة هي أن كل منها قد ساهم بشكل من الأشكال في تعديل نظرة علماء النفس و الاجتماع إلى الكائن البشري,و ألهمتهم المزيد من أساليب البحث و الدراسة و الاستقصاء و التفسير.

و قد ظهر علم النفس المعرفي أو ما يُعرف بالمذهب المعرفي في عقد السبعينيات من القرن الماضي,تماشيا مع فكر " الرواقيين " ( آخر فلاسفة اليونان القديمة ), الذين أكدوا على أن الناس لا يضطربون بسبب الأحداث في حد ذاتها, بل يضطربون بسبب الأفكار المتعلقة بتلك الأحداث. و هكذا قام هذا المذهب على فكرة دراسة حالات الناس العادية أو المضطربة انطلاقا من مفاهيمهم الخاصة المختزنة في عقولهم حول الذات و الحياة و الأحداث التي تربط بينهما.

و هكذا فقد أخذ علم النفس المعرفي دراسة السلوك انطلاقا مما يختزنه العقل من أفكار و تجارب,و هو ما فتح الباب على مصراعيه لربط علم النفس بعلم الأعصاب, مما أسفر عن فتوحات جديدة و مذهلة جعلت هذا العلم يتقدم بعشرات الخطوات الإضافية إلى الأمام.

و قد لا نبالغ إن قلنا أن موضوع الذكاء كان الموضوع الأكثر تناولا في علم النفس, سواء قديما أو حديثا. إلا أن علم النفس المعرفي قد أخذ على عاتقه دراسة الذكاء الإنساني من وجهة نظر وفّقت بين الجانب النفسي-الانفعالي و بين الجانب العصبي, حين بدأ بعض علماء النفس يرون أن معامل الذكاء (I.Q  ) لم يعد كافيا ليثبت ذكاء الأفراد إلى حد اعتباره كمعيار للنجاح, فكم من فرد يحقق معدلات نجاح مرتفعة في التحصيل الدراسي أو الأكاديمي, و لكنه غير سعيد و غير ناجح في جانب الحياة الشخصية و العلاقات الاجتماعية على اختلافها. بينما يُحقق أشخاص آخرون نجاحات باهرة في مختلف مناحي حياتهم و يحصلون على السعادة و الرضا رغم أن مستواهم الأكاديمي محدود, و معامل ذكائهم ليس بتلك القوة أو الارتفاع. و هكذا بدأ العلماء يفترضون وجود أشكال أخرى للذكاء أكثر تعقيدا من أن يتم حصرها في جانب التحصيل الدراسي أو الأداء على اختبارات و مقاييس الذكاء الكلاسيكية التي وُضعت في بدايات و أواسط القرن الماضي.هذا إذا أردنا اعتبار الذكاء قدرة أو سمة ضرورية تستعمل كأداة لتحقيق السعادة الشخصية و النجاح اللازم في الحياة.

و قد كان العام 1983 نقطة تحول هامة في دراسة الذكاء, عندما اقترح " هاورد جاردنر Gardner   " نظريته عن الذكاءات المتعددة,التي فتحت الطريق لدراسة أعمق لما عُرف آنذاك بالذكاء الاجتماعي,الذي أشار إليه السيكولوجي المصري الراحل "فؤاد أبو حطب ",الذي مهد الطريق لظهور مصطلح أقل ما يوصف به أنه " ثوري ", بعد أن تمكن به علم النفس من تحقيق قفزة عملاقة في مجال البحث النفسي و الطبي – العصبي, و هو مفهوم " الذكاء الانفعالي Imotional intelligence   " الذي جاء به سيكلوجيون أمريكان سنوات التسعينات, كاقتراح أكاديمي لمواجهة المشاكل الانفعالية العويصة التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة, و قد كان في مقدمة هؤلاء النفساني الكاتب " دانيل جولمان D.Goleman   ". فما هو هذا المفهوم و ما هي أهم أسسه و طبيعته و نظرياته و آثاره في حياتنا.... ؟.

قبل الغوص في هذا الموضوع لا بأس من طرح سؤالين: ما هو الانفعال و ما هي وظيفته ؟   !  . سؤالان قد يتيه معظم الناس من العامة في الإجابة عنهما, فيقولون أن الانفعال هو الإحساس, فما هو الإحساس إذن ؟. فيقولون أنه المشاعر, فما المشاعر ؟. فيقولون هي العواطف. فما هي العواطف ؟.... أما وظيفتها فحدث و لا حرج.

إن وضع تعريف واضح لماهية الانفعالات و فهم طبيعة وجودها في حياتنا يستدعي وضع المصطلح في سياقه الطبيعي العام, خاصة عندما نفهم أن كل الخبرات الانفعالية و العاطفية التي نعيشها تحدث دوما في سياق متكامل, حيث تشترك في صنعه كل من الحالة الذهنية و الانفعالية و الفسيولوجية التي تشكل معا ما يُعرف بالاستجابة لحدث ما, إما داخلي ( كالمرض مثلا ) أو خارجي يرتبط بالمحيط الاجتماعي و البيئة التي يعيش فيها الفرد. هذا من جهة.

من جهة ثانية, لا بد أن نوضح أن هنالك فرقا بين مصطلحي الانفعال و العاطفة, فالإنفعال يكون أسرع من العاطفة في الحدوث, إذ يعتبر كرد فعل طارئ لحدث أو موقف أو فكرة ما, و هو أسرع في الزوال. أما العاطفة فهي تلك الحالة الثابتة نسبيا و المرتبطة باتجاهاتنا و انطباعاتنا تجاه مواقف أو أحداث أو أشخاص بعينهم, و يمكن أن تكون العاطفة بذلك حالة تتشكل من تراكم و تكرار لانفعالات تنتج عن استجابات محددة.

كما يجب أن نفهم كذلك أن موضوع الاستجابات لا يحدث دوما في سياق أحادي أو خطي ( أ- ب – ج ), لكنه أدق و أعقد من ذلك بكثير. فتكفي فكرة واحدة و لو كانت صغيرة تمر على وعي الفرد حتى تؤسس لشبكة طويلة من الاستجابات الانفعالية المعقدة, التي قد تأخذ منحنى تصاعدي ينتهي في أقوى الحالات ليثير ردات الفعل ذات الطابع الجسماني كالتعرق أو الارتعاش. فهنا نجد ذلك التداخل المعقد و التأثير المتبادل بين الانفعالات و الأفكار و الجسم. فأحيانا يسبق الانفعال و تليه الفكرة ثم تأتي استجابة الجسد كالخوف من شيء غير واضح, و أحيانا تكون الفكرة ثم يليها الانفعال فردة فعل الجسد, كرؤية شيء مقزز, و في أحيان أخرى تأتي ردة فعل الجسم تجاه مثير خارجي لتليها الفكرة و ينتهي الأمر بالانفعال كالتعرض للسعة مفاجئة, فتكون ردة النخاع الشوكي اللاإرادية كالقفز مثلا, تليها الفكرة ( الوعي ) التي توضح أن الحادث هو عبارة عن لسعة نحلة, ليليها الانفعال الناتج عن الألم كالغضب مثلا..., و في كل حالة من هذه الحالات قد تحدث تفاعلات كثيرة و متشعبة بين الانفعال و العقل و الجسم و تصل لتترك أثرها في المحيط.

و هنا يجب أن نطرح السؤال الأنسب لفهم ماهية الانفعال: لماذا تحدث الانفعالات في حياتنا اليومية ؟.

إن التجارب و الأحداث المختلفة التي نمر بها طيلة حياتنا, و مهما كان نوعها أو طبيعتها, تحمل دوما قيمة ذات بعد انفعالي أو عاطفي معين, تمكن لنا من إعطاء أو إكساب معنى لذواتنا و حياتنا و لتلك الأحداث نفسها, و الظروف أو الأشخاص الذين يرتبطون بها, بحيث لا يمكن أن تتحول تلك التجارب على اختلافها –سواء كانت إيجابية أو سلبية – إلى ما يُعرف بالخبرة إن كانت منقوصة من نسبة و لو ضئيلة من المركب الانفعالي, الذي يضمن الحد الأدنى من التفاعل و التقييم و التعلم, و ذلك يبدأ منذ مرحلة الطفولة. فمثلا كيف للصبي الصغير أن يفهم أن سلوك تحطيم ممتلكات الآخرين و العبث بها هو سلوك غير مقبول اجتماعيا, إن لم يشعر بقدر معين من الخوف أو الذنب جراء التوبيخ الذي يتعرض له من طرف الأبوين, و الذي يدفعه للحذر مستقبلا في التعامل مع مقتنيات البيت ؟. و هو ما يقابله الشعور بالسعادة عندما يقابله أفراد الأسرة بالاحتضان و التقبيل في حال الإقدام على فعل يحمل قيمة اجتماعية إيجابية.... فهذه الانفعالات التي تصاحبنا منذ خبراتنا الطفولية الأولية ( قبل نضجنا الفكري ) تكون بمثابة البوصلة المرشدة لنا في تحديد توجهاتنا نحو ذواتنا و اكتشاف القيم الأخلاقية للمحيط الذي نحيا فيه,هذا على المستوى التربوي.

أما على المستوى الاجتماعي فإن من وظائف الانفعالات في حياتنا الشخصية و الاجتماعية هي خلق التكيف و التوازن مع شكل أو طبيعة الأحداث التي نعيشها وسط جماعتنا. فالمرء لا يمكن أن يحقق اندماجا مثاليا في جماعته إن لم يكن متوافقا و متناغما معها على المستوى الانفعالي و العاطفي,و أبسط مثال على ذلك هو حالة الشخص العابس وسط حفلة بهيجة, أو حالة الشخص المرح وسط مأتم...,فهذا النوع من عدم التوافق الانفعالي وسط الجماعة يعد أحد مسببات الإقصاء و العزل عن المجتمع.

بل و يذهب علماء النفس و الأعصاب المعاصرون إلى تحديد أهم وظائف الانفعال في "الحفاظ على حياتنا و ووجودنا " كجنس بشري, بوصف المشاعر بـ " دوافع الأفعال " حسب جولمان, الذي يربط السياق الذي تحدث فيه الانفعالات بمختلف ردود الفعل التي من شأنها تجنيب الفرد المواقف الخطرة أو المهددة لسلامته. فمشاعر القلق و الخوف – حسب جولمان – هي الدافع إلى الحذر, و مشاعر الإعجاب و الانجذاب نحو الجنس الآخر هي الدافع للصداقة و التعاطف و الاقتران و الحماية و التكاثر, و مشاعر الحب الأبوي مثلا هي الدافع للعمل و التضحية من أجل مستقبل الأبناء ( الجيل التالي ). و هذه الحقيقة المتعلقة بتحريك العواطف للسلوك كان قد أشار إليها العالم " ماك دوجال Mc Dogal  " في بدايات القرن العشرين, عندما قال بأن "السلوك لا يندفع باعتبارات عقلية محضة, بل بالحب و الكره و الاهتمام و الحماس و المنافسة و غيرها من العواطف ".

لهذا نفهم أن الانفعالات تؤدي وظائف متنوعة في حياتنا,منها ما هو تكيفي و منها ما هو دفاعي و منها ما هو ارتقائي ( يسمو بالكائن البشري ). و يمكن تعريفها بشكل مبسّط على أنها " تلك الحالة التي تؤثر في الكائن الحي, و تصحبها تغيرات جسمية وظيفية داخلية,و مظاهر جسمانية خارجية غالبا ما تعبر عن نوع تلك الحالة نفسها, الهدف منها هو التكيف مع طبيعة المثير الذي يثير تلك الحالة, سواء كان إيجابيا أو سلبي, داخليا أو خارجي, طارئا أو غير طارئ, و التعامل معه بالشكل المناسب ".

 

.....يُتبع

Partager cet article
Repost0
10 septembre 2011 6 10 /09 /septembre /2011 14:58

RTEmagicP_bbd748c8fa-1-.jpg

جدلية العقل و الانفعال و الحل المقترح لإنهائها

" الحياة كوميديا لمن يُفكّرون, و تراجيديا لمن يشعرون "... بهذه الكلمات عبّر دانيل جولمان عن تلك الجدلية الطويلة و المستمرة بين من يقدسون العقل و يرون أنه المفتاح الوحيد للتحكم في زمام الأمور و مجريات حياة الأفراد و المجتمعات, و ألائك الذي يرون أن العواطف و الانفعالات هي مفتاح ذلك.

و الحقيقة هي أن كل التجارب الحياتية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن التطرف في الميل إلى أحد هاذين الطرفين ( العقل أو القلب ) على حساب الآخر, إنما هو فاتحة لمشاكل جمة من عدم التوافق النفسي و الاجتماعي للفرد. فكم من شخص حوّلته سلوكياته المبنية على التفكير العقلاني المحض إلى شخص فاتر العواطف يشبه الآلة الحاسبة, و انتهى به المطاف إلى تفكك صِلاته الاجتماعية بسبب نفور المحيطين به منه بسبب استحالة العيش بجانبه. و كم من شخص آخر صار عبدا ضعيفا لعواطفه و انفعالاته, إلى درجة أن التفكير العقلاني أو المنطقي لم يعد له وجود في حياته,مما جعل الحياة بجانبه مستحيلة كذلك بسبب سلوكياته الانفعالية المندفعة دوما بدون تفكير متأن نحو المجهول... نحو الانهيار.

و قد كان هناك مجال واسع للحديث عن التوفيق بين العقل و المشاعر في تسيير أمور الحياة, لكن الحقيقة أثبتت أن قلة من الناس يفلحون في خلق هذا التوافق,بينما يستمر الكثير منهم في حياة المد و الجزر في صراع القلب و العقل دون أن يفهموا جوهر هذا التجاذب,و هو السبب الأول في أنواع الإرهاق العصبي و القلق التي يعيشها الإنسان المعاصر.

هنا نصل إلى ما يُمكن اعتباره المفهوم الذي فتح الطريق واسعا لدراسة هذه العلاقة المتشابكة و المعقدة بين التفكير المنطقي الواعي, و بين طاقة المشاعر و الأحاسيس و الانفعالات. عندما بدأ علماء النفس المعرفي يشيرون إلى ألائك الأشخاص الذين يستطيعون التوفيق بين التفكير و الانفعال بشكل يمكنهم من النجاح في مختلف مناحي حياتهم, خاصة ما تعلق منها بجانب العلاقات الاجتماعية. و قد سُميت هذه القدرة بالذكاء الانفعالي, و تسمى أيضا بالذكاء العاطفي, و الذكاء الوجداني, و ذكاء المشاعر.

لقد كان الباحث " رووفين بارون R-Baron   " أول من وضع معامل الانفعالية Emotional Quotient   العام 1985, و وصف الذكاء الانفعالي بأنه " يُظهر قدرتنا على التعامل بنجاح مع مشاعرنا و مع الآخرين ". ثم جاء دانييل جولمان عام 1995 مقدما نموذجه النظري الشهير للذكاء الانفعالي, إذ عرف جولمان هذا النوع من الذكاء بأنه " مجموعة من المهارات الانفعالية و الاجتماعية التي يتمتع بها الفرد, و اللازمة للنجاح المهني و في شؤون الحياة الأخرى", ثم جاء بعده كل من " سالوفي و ماير Salovey & Mayer   " عام 1997 بتعريف آخر للذكاء الانفعالي يفيد بأنه: " القدرة على إدراك الانفعالات و فهمها و تنظيمها لتدعيم الترقي الانفعالي و العقلي ".

و على أساس ما تقدم, يمكن أن نعبر عن الذكاء الانفعالي بأنه نوع من القدرة التي تسمح للفرد بإدراك عواطفه أو انفعالاته حين حدوثها, و تقييمها تقييما دقيقا, لتسخيرها لصالح علاقته مع نفسه و مع الآخرين. إذ يتحقق على هذا المستوى ذلك الارتباط بين العقلين المفكر ( القشرة المخية ) و العاطفي ( المخ الحوفي ). فالقدرة على إدراك الانفعال و فهم نوعه و مدى عمقه و آثاره على سلوك الفرد, ثم استخدام هذه المعرفة في ضبط الانفعالات و السلوك و الأفكار الناتجة عنها لصالح صاحبها, بات يعتبر من أعظم قدرات الذكاء حاليا. فأذكى الأشخاص في عصرنا الحالي ليسوا من حملة الشهادات الأكاديمية الراقية من الجامعات الشهيرة بالضرورة, بل هم ألائك الذين يملكون القدرة العالية على فهم انفعالاتهم و عواطفهم,و يستخدمون ذلك الفهم الدقيق في توجيه تلك الأفكار و المشاعر للحصول على الراحة و الرضا على النفس و النجاح في العلاقات مع الآخرين.

فقد بين سالوفي أن مرتفعي الذكاء الانفعالي يُحتمل أن يكون لديهم القدرة على مراقبة انفعالاتهم و مشاعرهم, و التحكم فيها, و الحساسية لها, و تنظيم تلك الانفعالات وفق انفعالات و مشاعر الآخرين. و قد حدد مفهوم الذكاء الانفعالي في خمسة نقاط أو قدرات أساسية, لخصها السيكولوجي الجزائري " بشير معمرية " كالآتي:

-1 أن يعرف الفرد عواطفه و مشاعره.

-2 أن يتدبر الفرد أمر عواطفه و مشاعره.

-3 أن يدفع نفسه بنفسه, أي أن يكون مصدر دافعية لذاته.

-4 أن يتعرف على مشاعر الآخرين.

-5 أن يتدبّر أمر علاقاته بالآخرين.

هذا و قد قدم دانييل جولمان نموذجا نظريا مثيرا للاهتمام لخّص من خلاله القدرات الفرعية الأساسية التي يتشكل منها الذكاء العاطفي, و اللازمة للنجاح في الحياة الشخصية و في العلاقات الاجتماعية, إذ تشتمل على: معرفة الانفعالات, إدارة الانفعالات, تنظيم الانفعالات, التعاطف و أخيرا إدارة العلاقات.

إن الركيزة الأساسية في هذا النظام العقلي –الانفعالي هي معرفة الانفعالات وقت حدوثها و إعطائها التقييم المناسب لأثرها على سلوكنا,إذ يورد جولمان في هذا السياق أسطورة جميلة تدور حول محارب الساموراي الياباني الذي التقى ذات يوم برهبان و أراد أن يتحداه حول من أكثرهما دراية بمفهوم الجنة و النار.فنظر إليه الرهبان نظرة احتقار و هو يقول له بأنه لن يضيع وقته مع تافه مغفل مثل مقاتل ساموراي,فكان أن شعر المحارب بالإهانة الشديدة, فسحب سيفه من غمده و هو يصيح راكضا نحو الرهبان الذي ظل واقفا في مكانه بهدوء, و قبل أن يصل مصل السيف إلى رقبته صاح في الساموراي: هذه تماما هي النار. فتجمد المحارب في مكانه و قد أدرك أنه فعلا كان لقمة سائغة لانفعالاته, فشعر بالخجل الشديد و انحنى للرهبان معتذرا بشدة فعاد الرهبان و هو يقول: و هذه هي الجنة   !  .

إن الوعي بالانفعال في لحظة حدوثه يختلف كلية عن إدراكه بعد أن يقع السلوك الناتج عنه و يزول,إذ أن هذا الوعي هو الذي يصنع الفارق بين الإقدام على فعل أو سلوك متهور قد يجعل صاحبه يقع في دوامة الندم الطويل لاحقا,و بين ضبط النفس الذي يأتي عندما يستطيع الفرد التفريق بين ذلك الانفعال و بين ذاته نفسها,كأن يقول الشخص في لحظة غضب غامر من شخص ثان: هذه مشاعر الغضب و لستُ أنا الغضب.

فهذا النوع من الوعي – حسب جولمان – يؤدي وظيفة رقابية على انفعالات الفرد, وهو الذي يصدر الأحكام على المشاعر المختلفة على أنها جيدة أو سيئة, مقبولة أو مرفوضة, فإذا تمكن الفرد من تطوير هذه القدرة يكون قد وصل إلى جوهر ما دعى إليه سقرلط عندما قال: " اعرف نفسك بنفسك ".

البعد الثاني في هذا النموذج, هو " إدارة الانفعالات ", و الذي يُقصد به التحكم في سير الانفعالات بعد إدراكها, و وضع كل انفعال في مكانه المناسب,لتحقيق التوافق مع الذات و مع البيئة و المجتمع. كما يشمل أيضا طرق التعامل مع الانفعالات العاصفة و الشديدة,و امتصاص آثارها السلبية التي من شأنها زعزعة شخصية الفرد, و ذلك بعيش تلك الانفعالات و معالجتها بمرونة.فالفكرة الأساسية التي تعبر عن هذا البعد هي أن لكل موقف من مواقف الحياة انفعالا مناسبا له لا يمكن إنكاره أو قمعه كما لا يمكن أن يستبدل بانفعال آخر.فتقلب الحياة بين مواقف سعيدة و أخرى حزينة,ينبغي التعالم معه بوضع الانفعال المناسب في الموقف المناسب و عيش ذلك الانفعال بمعقولية. و الهدف من كل هذا هو إعطاء الحياة معناها الحقيقي.

فالأفراد الذين يعيشون دوما في ريتم انفعالي واحد و ثابت هم أكثر الأشخاص عرضة للمشاكل التوافقية,كما أن ألائك الذين يفتقدون إلى قدرة تسيير مشاعرهم و التعامل مع انفعالاتهم الطارئة بالمرونة اللازمة,هم أشخاص بحاجة ماسة إلى مساعدة. فالاعتقاد السائد بين عامة الناس فيما يخص التعامل مع الانفعالات السلبية كالحزن مثلا, هو أن أفضل وسيلة لتجنب هذه المشاعر هي إنكارها أو القفز عليها, إلا أن ذلك لا ينفع عادة, خاصة إذا كان الموقف يتطلب أن نعيش تلك المشاعر. إنما الحل يكمن في تقبلها و محاولة فهم سببها و الاقتناع بأنها طبيعية و هي تخص مرحلة أو حدثا معينا أدى إلى عيشها, أي أنها مؤقتة.

أما البعد الثالث لهذا النموذج النظري,فهو " تنظيم الانفعالات " و تسمى كذلك الدافعية الذاتية و التحكم في العواطف و القدرة على تأجيل الإشباع, و هي أيضا القدرة على تنظيم الانفعالات و توجيهها إلى تحقيق الانجاز و التفوق, و استعمال الانفعالات في صنع أفضل القرارات.

فقد أثبتت دراسات تتبعية هامة, أجراها مجموعة من الباحثين في السنوات الماضية, شملت مجموعة من الأطفال من مرحلة الروضة إلى غاية مرحلة المراهقة,أثبتت أن أفراد العينة الذين كانوا يستطيعون تنظيم انفعالاتهم و توجيهها توجيها صحيحا مبنيا على أساس الأهداف النهائية التي يريدون الوصول إليها, بما في ذلك مهارات تأجيل إشباع اللذات الآنية العابرة من أجل لذات مستقبلية أكبر.كان هؤلاء الأفراد الأكثر نجاحا في حياتهم الدراسية و الاجتماعية و المهنية,عكس الأفراد الذين كانوا يواجهون عجزا في فهم انفعالاتهم و استغلالها في حفز ذواتهم للوصول إلى أهدافهم النهائية.لذلك خلص أحد الباحثين المشاركين في هذه الدراسة للقول بأن:" تأجيل الإشباع المفروض ذاتيا و الموجه بالهدف,ربما يكون أساسا لتنظيم الذات الانفعالية ".و تجدر الإشارة إلى أن التنظيم الانفعالي يساعد الفرد في فهم الكيفية التي يتفاعل بها الآخرون من حوله بمشاعرهم المختلفة.

و هنا نصل إلى البعد الرابع و الذي يُعتبر أساسيا و هاما جدا في مجال النجاح في العلاقات الاجتماعية, و هو ما يُسمى بـ" التعاطف ", و يسمى كذلك التفهم أو التقمص الوجداني كما يسميه "إدوارد تيتشنرE.Titchener   " الذي يقول:" التعاطف ينبع من الشعور بمعانة الآخر، باستحضار مشاعر الآخرين نفسها إلى داخل المتعاطف نفسه".

و يوضح الدكتور بشير معمرية ما سبق بقوله: "يقوم التعاطف على أساس الوعي بالذات, لأنه بقدر ما يكون الفرد قادرا على تقبل مشاعره و إدراكها, يكون قادرا على قراءة مشاعر الآخرين. فالأشخاص العاجزون عن التعبير عن مشاعرهم, و المفتقدون لأي فكرة عما يشعرون به أنفسهم, يكونون في ضياع كامل. حيث أنه إذا طلب منهم معرفة مشاعر أي شخص آخر ممن يعيشون حولهم, فإنهم لا يجيبون بشيء ". و قد بينت الباحثة " زينب شعبان " في هذا الصدد عام 2003 دراسات أجريت في أمريكا على أفراد من أعمار مختلفة و من جنسيات مختلفة, أن الإنسان القادر على قراءة المشاعر من التعبيرات غير المنطوقة, يكون في حالة أفضل من حيث التكيف العاطفي و محبوبا أكثر من غيره,و تبين كذلك من نتائج هذه الدراسات أن النساء أفضل من الرجال في التعاطف,و أن الأطفال الأذكياء في قراءة المشاعر غير المنطوقة كانوا من الأطفال المحبوبين  في  المدرسة و أكثرهم استقرار عاطفيا و أفضلهم أداءً.

لذلك يُطلق بعض العلماء على هذا العنصر اسم " دور العاطفة الذكي ", فهو يشمل إدراك الإنسان لعواطفه الذاتية و فهمها فهما عميقا, ثم العمل على الحفاظ عليها و العناية بها و تطويرها, إلى القدر الذي يصل به إلى " الارتقاء " بها إلى القدرة على قراءة عواطف و انفعالات الآخرين, دون أن يضطروا هم للتعبير عنها, و استعمال هذه القدرة في التواصل معهم و تلبية احتياجاتهم, بما يكفل تقديرهم و تأثرهم بشخص الفرد المتعاطف.

أما البعد الخامس و الأخير في هذا النموذج فيسمى بـ "إدارة العلاقات ",و هو ما يمكن اعتباره فنا من فنون العلاقات الاجتماعية,كما يسمى بالكفاءة الاجتماعية و التواصل الاجتماعي.و يشير إلى تأثير الفرد القوي و الايجابي في الآخرين عن طريق إدراك انفعالاتهم و مشاعرهم, و معرفة متى يقود و متى يتبع الآخرين و يتصرف معهم بطريقة ملائمة.

فحسب بشير معمرية فإن الإنسان كائن اجتماعي, و قدرته على السلوك بصورة سليمة مع الآخرين عامل فعال في توافقه. و تشير الكفاءة الاجتماعية إلى القدرة على فهم مشاعر الآخرين و انفعالاتهم بالصورة المثلى التي يتطلبها الموقف, و هي تظهر في القدرة على التأثير في الآخرين و التواصل معهم, و قيادتهم بشكل فعال. هذا وقد كتب جولمان يقول: " فن العلاقات بين البشر هو في معظمه مهارة في تطويع عواطف الآخرين, و يتطلب ذلك كفاءة اجتماعية و قدرات و فعالية في عقد الصلات مع الآخرين. و المتفوقون في هذه المهارات يجيدون التأثير بمرونة في كل شيء يعتمد على التفاعل مع الناس".

و يضيف بشير معمرية على كلام جولمان أن إدارة الانفعالات بشكل سليم مع الآخرين, هي أساس تناول العلاقات على نحو صحي و ناجح, و هي مهارة أساسية في إقامة علاقات ايجابية متميزة مع الآخرين, و لكي ينجح الفرد في التحكم في انفعالاته يتطلب نضج اثنتين من المهارات في هذا النموذج هما: إدارة الذات و التعاطف.

و لعلنا نفهم الآن بعد كل الذي تقدم,أن مثل هذه النماذج النظرية و البحوث التي ارتبطت بها قد حققت الكثير في ميدان علم النفس الحديث, و ساعدت في فهم و تحليل الكثير من السلوكيات سواء كانت ظاهرة أو باطنية, و التي يتميز بها الإنسان مع نفسه و مع الآخرين. حيث صار مفهوم الذكاء الانفعالي أو العاطفي من بين أهم المواضيع المدروسة في الجامعات و مراكز البحث.

....يُتبع

Partager cet article
Repost0
10 septembre 2011 6 10 /09 /septembre /2011 14:49

population-1-.jpg

 آثاره على بعض مناحي حياتنا

يجب الاعتراف بأن عهد الاحتقار أو الاستصغار غير المعلن للعواطف و المشاعر قد بدأ في الانحصار,بعدما أثبت العلم الحديث أن تميز الفرد بعاطفة قوية و انفعالات عميقة ليس فيه أي عيب أو دليل على ضعف في الشخصية, مادام قادرا على اكتشاف تلك الانفعالات و المشاعر و الاعتراف بها و تحليل شكلها و  تحديد عمقها بشكل دقيق, و تسخيرها لصالح علاقته بنفسه و بمحيطه, و جعلها وقودا يملأ خزان طاقاته الإبداعية المختلفة, الذي يستخدمه في تجسيد خططه و أهدافه في الحياة.

و قد أثبتت الدراسات النفسية الحديثة التي تزامنت مع التطور الهائل في أدوات الرصد و المراقبة و القياس,أن للعواطف و الانفعالات, و ردود الفعل الفكرية و الفسيولوجية المصاحبة لها آثار بالغة الأهمية في تحديد نوع علاقة الفرد بمحيطه الاجتماعي و المهني, و من ثم مستقبل العلاقة نفسها. و أثبت جل العلماء أن لمستوى الذكاء العاطفي الدور الأبرز في تحديد المستقبل العلائقي للفرد و إن كان هذا المستقبل مشرقا أم العكس. و فيما يلي نلخص بعض أهم الجوانب الاجتماعية التي يلعب فيها الذكاء الانفعالي دوره الحاسم, استنادا إلى ما توصلت إليه بحوث العلماء في هذا الشأن:

أ-الذكاء الانفعالي و العلاقة الزوجية:

فالعلاقة الزوجية و مستقبلها مرهون – كما أثبتته الدراسات – بالخلفية العاطفية للزوج و الزوجة. فقد أكد جولمان على أن الاستعدادات و الصفات الانفعالية للرجل تختلف عن استعدادات المرأة بحكم الخلفيات الذهنية و العاطفية لكل منهما, و قد اعتمد في ذلك على بحث قامت بتلخيصه كل من "ليسلي برودي Lislie Brody  " و "جوديث هول Judith Hall  " يؤكد على أن الفتيات يتطورن في اللغة بسهولة و بسرعة عن الذكور و هذا ما يجعل الإناث أكثر  حدة في إظهار مشاعرهن, و أكثر مهارة من الأولاد في استخدام الكلمات ليكشفن عن ردود أفعالهن العاطفية. أما الذكور ممن لا يتلقون  تأكيدا لفظيا للمؤشرات التي يواجهونها, قد لا يدركون كثيرا حالتهم الانفعالية أو حالات غيرهم, و غالبا ما تكون المعارك الجسدية سبيل العنصر الذكوري للتعبير عن ردود الفعل الانفعالية بدل الألفاظ.

لهذا يستنتج جولمان أن أغلب الخلافات التي تنشأ بين الأزواج مردها الاختلاف بين أنماط السلوك الانفعالي بين الجنسين من جهة, و جهل كل طرف بالخصائص العاطفية و المعرفية للطرف الآخر من جهة ثانية. لهذا يؤكد على أن الرجال  الذين يمتلكون مهارات الإعفاء الجيد و التعاطف مع حالات الزوجات هم الأزواج الذين غالبا ما ينتهي بهم المطاف إلى كسب ثقة زوجاتهم و إطالة علاقاتهم بهن. إضافة إلى الأهمية القصوى لدور المناقشة  التي تدور بين الأزواج حول المشاكل و المنغصات, إذ يوضح جولمان أن تقصير دورات المناقشة و تقديم الحلول العملية السريعة للمشاكل من طرف الأزواج, من أهم الأمور السلبية التي يجب تفاديها, لأن الزوجات عموما يرغبن في إطالة تلك المناقشات, فقط من أجل  أن يشعرن بأن أزواجهن يصغون إليهن باهتمام, بغض النظر عن بساطة أو حتى سذاجة موضوع النقاش.

و الحقيقة أن معظم الأزواج لا يفهمون هذا التفصيل الصغير, و لا يدركون أن المرأة في العموم تلجأ إلى تضخيم بعض المشاكل فقط لترى زوجها مصغيا و متعاطفا و مانحا لها مزيدا من الوقت, فيميل هؤلاء الأزواج – إما عن جهالة أو عن قصد – إلى التهكم على المشاكل المطروحة للنقاش, و بأنها سخيفة و لا تستحق كل هذه الضجة من طرف الزوجة, فيكونون بذلك قد فتحوا الباب لفقدان الثقة و الشعور بالوحدة و النكد من طرف الزوجة.

لكن طبعا هذا لا يعني إعفاء الزوجات من المسئولية في التصدعات التي تصيب علاقتهن مع أزواجهن, إذ يشير العلماء إلى أن من أهم الأخطاء التي تقع فيها الزوجات عادة في مثل هذه العلاقات هي التهجم المباشر على شخصية الزوج عند حدوث أي أمر منغص, و كما يشير جولمان دائما, فإن عدم قدرة الزوجة على التفريق بين أي سلوك سلبي صادر عن زوجها و بين هذا الزوج كشخص, غالبا ما يدفعها إلى إطلاق عبارات التهكم و الاستصغار أو حتى الاحتقار في حقه, بدل انتقاد سلوكه بشكل لائق و محترم, و هو – حسب علماء النفس – من أكثر الأمور التي تمس الرجل في الصميم. فتجعله يفقد احترامه للزوجة مع مرور الوقت, بل و قد يكون أحد الأسباب للعنف المعنوي أو البدني أو حتى الخيانة الزوجية مستقبلا.

لذلك فإن أهمية الذكاء الانفعالي في هذا الجانب الجوهري في الحياة الاجتماعية, تكمن في معرفة الخصائص الانفعالية لكل من طرفي العلاقة الزوجية, و الاعتماد على هذه المعرفة القائمة أساسا على مهارتي التعاطف و إدارة العلاقات في توجيه العلاقة بين الزوجين في الاتجاه الصحيح.

بـ- الذكاء الانفعالي في الأسرة:

و كما يقول جولمان: "الأسرة هي المدرسة الأولى للتعلم العاطفي, فنحن نتعلم في هذا المحيط الاجتماعي كيف نتمعن في مشاعرنا و نحدد اختياراتنا كرد فعل لهذه الاستجابات". و يرى جولمان  أن هذه التربية العاطفية تتم عن طريق ما يقوله الآباء و يفعلونه و يقدمونه من نماذج في كيفية تعاملهم تجاه أبنائهم, و كيف  يتبادلون المشاعر هم أنفسهم فيما بينهم.

فقد قام سالوفي و آخرون ببحث اقترح أن آباء الأطفال أو الأفراد الأذكياء عاطفيا يكونون حساسين انفعاليا لأطفالهم في وقت الحاجة العاطفية. و من بين أهم العناصر التي تنمي القدرات العاطفية للأطفال منذ سن مبكرة هي "المظاهر الأمومية التعبيرية", أي ردود أفعال الأم على تعابير الطفل, إذ يوضح كل من "دنهام و غروت Denham & Groat  " عام 1993 في إحدى الدراسات, أن ردود الفعل التعبيرية للوالدين على انفعالات الأطفال يمكن أن  تكون عوامل هامة لجعل الأطفال يعرفون أي اتجاهات السلوك تكون ملائمة, عندما يشعرون بأن هناك طرقا مختلفة يمكن استخدامها للاستجابة.

كما يكتسب الطفل الذكاء العاطفي عن طريق حديث الأسرة المفتوح عن المشاعر و الانفعالات التي تقوي وعي الطفل العاطفي, الذي يسمح له بتبني المعاني الملائمة و الشائعة ثقافيا حول الخبرة الانفعالية. لذلك فالأطفال الذين ينشئون في أسر يتكرر فيها الحديث حول الحالة الشعورية يبدون أفضل في اتخاذ أحكام حول انفعالات الراشدين.

و هكذا إذن تبرز الأهمية التي تلعبها النظرات العاطفية و اللمس و المناغاة منذ مرحلة الرضاعة,إذ يستعملها الأبوين كلغة إشارات انفعالية و عاطفية,تعلم الطفل التواصل الوجداني و التعلق بالوالدين,و تمهد له الطريق لاكتساب قدرة فهم و تفسير الحالات الانفعالية للآخرين في سن مبكرة. يتبعها شكل العلاقة الزوجية بين الأبوين, إذ تبرز أهمية إبراز الأبوين الحب و الاحترام المتبادل بينهما أمام الأطفال, لتعزيز الشعور بالأمان و الثقة من جهة, و من جهة أخرى ليشكلا نماذج ممتازة عن شكل العلاقات الإنسانية الأنسب الذي يسعى الطفل لتشكيله مستقبلا. يضاف إلى كل هذا – و هو ما يعتبر طابو في مجتمعاتنا – الحديث و التعبير الصريح عن مشاعر الحب و الود داخل الأسرة,و الذي يعتبر سلوكا جد مهم في إكساب الطفل القدرة على وصف مشاعره و التعبير عن حالاته العاطفية بدل كبتها, إذ يتصل هذا السلوك مباشرة بالمعرفة الانفعالية, التي – كما أشرنا سابقا – تعد الركيزة الأساسية لمهارات الذكاء الانفعالي.

ج-الذكاء الانفعالي في المدرسة:

تقول السيكولوجية الجزائرية " زبيدة الحطاح "أن: المجال المدرسي مجال نفسي و اجتماعي لا يمكن فصل الظواهر النفسية للأفراد فيه عن الظواهر الاجتماعية الخاصة بالمجموعات الصغرى التي تلتقي فيه  و تتفاعل في إحداث الظواهر التربوية. فالمتغيرات السيكولوجية  الخاصة بالأفراد من حاجيات و دوافع و أهداف و إدراكات, تلتقي بالمتغيرات الاجتماعية من منظومات القيم الثقافية, و هكذا يكون المجال المدرسي مجالا عاطفيا لسببين رئيسيين حسب الباحث "خوالدة محمود" و هما: 1- أن مجال المدرسة هو مجال معرفة, إذ لا يمكن أن نوجه أية آلية معرفية بدون عناصر وجدانية و عاطفية. 2- أنه – أي المحيط المدرسي – مجال علاقات إنسانية و حيث ما تكون العلاقات تكون العواطف.

فهذا جولمان يرى أن المدارس هي الأماكن الأولى التي يمكن أن تديرها المجتمعات لتصحيح القصور في الكفاءة العاطفية للتلاميذ, بما أن داخليها و مرتاديها يكونون مختلفين انفعاليا بحسب بيئة و خلفية كل فرد متمدرس. لهذا هي تضطلع بمهام التغيير اللازم من أجل سد الفراغات العاطفية- المعرفية التي خلفتها أساليب التنشئة الخاطئة أو الناقصة داخل الأسرة, و هنا تعتبر مهارات و قدرات  الذكاء العاطفي لدى المدرسين عاملا حاسما في تأدية هذا الدور.

و يمكن الإشارة إلى أنه و في السنوات الأخيرة دأبت بعض الحكومات الغربية على وضع سياسات تربوية في مختلف المدارس و المؤسسات التعليمية, من أجل  نشر و توسيع مفاهيم الذكاء العاطفي وسط المتمدرسين, عبر توطيد مؤهلاتهم و قدراتهم العاطفية "Emotional Aptitude  ". و كمثال على ذلك المشروع الذي ترعاه الحكومة البريطانية, و الذي يقوم بتنفيذه باحثون و أكاديميون و القاضي بنشر المفاهيم و القيم الخاصة بالمهارات الاجتماعية و العاطفية, و نشر العادات الخاصة بها وسط طلاب و تلاميذ نحو ألف مدرسة ابتدائية في بريطانيا. و يقول "جيمس بارك James Park  " رئيس هذا المشروع أن جامعات أسترالية قد أبدت اهتماما بهذه الفلسفة التربوية, و هي متحمسة لنقلها إلى جامعات و مدارس أستراليا.

إن الهدف من كل هذه الجهود هو تثقيف الأطفال و التلاميذ و حتى المدرسين عاطفيا لمواجهة ما يُمكن وصفه في عصرنا الحالي بالأمية العاطفية "Emotional illiteracy  " من أجل تحسين تحصيلهم العلمي و الأكاديمي, بما أن العملية التعليمية هي عبارة عن تكامل  و علاقة وثيقة بين الجانب المعرفي و الجانب الانفعالي.

د-الذكاء الانفعالي في أماكن العمل و المؤسسات:

إن التدخلات في آماكن العمل لتنمية الذكاء العاطفي تكون هامة لأن الكثير من البالغين يدخلون عالم الشغل بدون القدرات الضرورية للنجاح, فقد أجري مسح قومي في الولايات المتحدة الأمريكية  للموظفين تبين منه أن أكثر من 50% من العاملين تنقصهم الدافعية للعمل و التعلم للتحسن في وظائفهم. و إذا ما علمنا أن الباحثين يقولون أن هناك فقط ما بين 10- 20% من التباين في اختبارات النجاح المهني يمكن إيعازه إلى قدرات معرفية, و أن عوامل النجاح المهني الأخرى و  التي تقع ما بين 80- 90% فتعزى إلى النواحي الوجدانية و سمات الشخصية, يمكننا إذن تصور الأهمية القصوى التي تحتلها قدرات و مهارات الذكاء العاطفي في المجال المهني, كمنطلق لأي نجاح أو ازدهار تحققه المؤسسات المختلفة.

فالصناعة الأمريكية تنفق في هذه السنوات ما قيمته 50 مليون دولار سنويا على برامج التدريب الوجدانية بصفة أساسية. و عندما طُرح سؤال من "الشركة الأمريكية للتدريب و التطويرAmerican Society for training and developpment  " على مجموعة تتكون من خمسين شركة حول تفضيلهم التدريب و الأنشطة التنموية لتنمية الذكاء العاطفي لموظفيها, تبين أن أربعة من خمسة شركات أكدت أنها تفعل ذلك دائما.

و في هذا الصدد يظهر مشروع "التعلم الاجتماعي و العاطفي Social and Emotional Learning  " كعلامة على الجهود التي تبذلها الأوساط الأكاديمية الأمريكية عبر شبكاتها و منظماتها المختلفة, من أجل نشر مفاهيم  و مهارات الذكاء العاطفي  و المؤهلات الوجدانية في الأوساط المهنية المختلفة, من أجل تطوير قدرات الأفراد الذاتية في مجال العمل و الإنتاج, و كذلك تطوير شبكة العلاقات الإنسانية داخل النسيج المؤسساتي لمضاعفة مردوديته انطلاقا من علاقة الفرد مع ذاته و علاقته مع الأخر.

و هكذا نصل إلى خلاصة مفادها أن ذكاء الإنسان ليس مرهونا بتاتا بما يملك من مؤهلات أكاديمية أو مستوى جامعي راق, بقدر ما هو مرتبط أساسا بقدرته على فهم مشاعره و مشاعر غيره, و تسييرها لخدمة صحته النفسية و تطوير قدراته العقلية ذاتيا, و النجاح في علاقاته الاجتماعية و تطوير مجتمعه على هذا الأساس.

إن غالبية الأفراد في عصرنا الحالي, و بسبب الوتيرة السريعة التي يتميز بها, صاروا يفتقدون إلى قدرة المعرفة الانفعالية,بسبب عدم ملاءمة وتيرة و نمط الحياة العصرية المليئة بالمتطلبات الطارئة,مع مفهوم الاختلاء أو الجلوس مع الذات و التأمل في أحوالها و احتياجاتها الحقيقية, و الذي كان فيما مضى ثقافة قائمة بذاتها, حيث تم استبداله اليوم بنشاطات ترفيهية ذات طابع مادي و خيارات كثيرة مُغرية, تجر الفرد إلى التبعية النفسية و الانفعالية لها, على حساب استكشاف ذاته و رصد احتياجاتها الحقيقية, و هو ما عمل على تعطيل قدرة العقل الذاتية في فهم ذاته, و جعل قدرات الذكاء الانفعالي لدى إنسان القرن الواحد و العشرين تتراجع بشكل مقلق, فهل آن الأوان ليفكر كل شخص في هذه المسألة بجد ؟.

-------------------------

المراجع:

-بشير معمرية, بحوث و دراسات متخصصة في علم النفس, الجزء الثالث, منشورات الحبر 2007, الجزائر.

-دانييل جولمان, الذكاء العاطفي, ترجمة ليلى الجبالي, عالم المعرفة 2000, الكويت.

-زبيدة الحطاح, الذكاء العاطفي: مفاهيمه, أبعاده و تأثيره في مجالات الحياة, مجلة دراسات نفسية و تربوية, العدد الثالث 2008, قسم علم النفس و علوم التربية و الأرطفونيا, جامعة البليدة, الجزائر.

-Robert Glossop & Alanna Michell, L’intelligence affective, une affaire de cœur , L’institut Vanier de la famille, Ottawa - Canada 2005.

Partager cet article
Repost0
17 juin 2011 5 17 /06 /juin /2011 14:49

saw5-1-.jpg

أفلام العنف و القتل في السينما الأمريكية: وجهة نظر نفسية

في عام 1997 أحدث فيلم " سكريم " ( الصرخة ) لمخرجه الأمريكي "ويس كريفن" زلزالا حقيقيا في سلم إرادات السينما الأمريكية, فقد مثل حينها انطلاقة جديدة و غير متوقعة لأفلام العنف و القتل الموجهة لشريحة المراهقين, و التي تفيض بالإثارة و التشويق و الحركة و الاندفاع, و هي عناصر كافية لجذب انتباه المراهق الباحث عن أي مصدر سواء كان واقعي أو هوامي لتفريغ شحناته الانفعالية الزائدة, و لملا إشباع حاجاته الطبيعية المتمثلة في النزوع إلى حب السيطرة و كسر أشكال السلطة و تجاوز الحدود و الاندفاع نحو المجهول باسم الرغبة في التعبير عن الذات و التميز..., و في خضم تلك الزوبعة صرح أحد المشاركين في صناعة الفيلم بأن كمية الدماء – الدماء الصناعية طبعا – التي تم سفكها في الجزء الأول من الفيلم بلغت الخمسين غالون ؟؟؟.

إن الحديث عن أفلام الجريمة و القتل واسع و متشعب, لذلك لا بد أولا من توضيح بعض النقاط في موضوع الأفلام التي تتناول مواضيعها العنف داخل المجتمع, حتى لا تلتبس الأمور على عقل القارئ, و حتى نتجنب الدخول في الجدليات الفلسفية الخاصة بهذا الموضوع, و التي تقوم عادة على فكرة: من وُجد أولا, البيضة أم الدجاجة ؟. في الإشارة إلى الجدلية التي تقول: هل واقع إنسان العصر الحديث و حياته المعقدة بكل ما فيها من ضغوط و تناقضات, هو ما جعل منه إنسانا يميل إلى العنف و العدوان بطبعه, و من ثم جعل ذلك السينما تعالج واقعه هذا عبر أفلامها ؟. أم أن الأفلام السينمائية التي تتطرق إلى العنف و القتل هي من أسست للسلوكيات العدوانية التي صارت تحكم علاقات البشر و قامت بتدعيمها ؟. و الجواب طبعا لا بد أن يأخذ طابع الوسطية... الأمران معا يؤثران و يتأثران ببعضهما. لكن النقطة التي يجب التركيز عليها هي قضية تصنيف الأفلام التي تتناول العنف و القتل, لأنها في الحقيقة تختلف عن بعضها البعض.

فهناك أفلام قامت بعلاج الظواهر الإجرامية و النماذج السلوكية المنحرفة التي تحكم و تسير البشر, أو تحكم طبقات أو جماعات معينة من البشر, من منطلق واقعي يمكننا جميعا إدراك وجوده في مجتمعاتنا أو مجتمعات نعرفها بدرجات متفاوتة, و من بعض تلك الأفلام, مثلا, ثلاثية العراب للمخرج "فرانسيس فورد كوبولا", و فيلم كازينو للمخرج "مارتن سكورسيز". فهي تعالج ظواهر العنف و العدوان و الإجرام بنظرة سوسيولوجية واقعية محضة, و هي موجهة للبالغين من الجمهور بشكل عام.

هناك نوع ثاني من الأفلام التي يحضر فيها العنف و القتل, لكنها تأخذ في العادة طابع الخرافة و الخيال, كأفلام مصاصي الدماء, التي تجتذب إليها شرائح واسعة من الشباب و المراهقين مقارنة مع النوع الأول المذكور أعلاه. رغم ذلك فإن التفاعل العقلي و العاطفي معها يتوقف دائما عند حدود الواقع, فالمُشاهد حتى و إن أعجبته القصة أو تركت أثرا في نفسه فهو يخرج دوما من حالة التواصل و التركيز بعد نهاية الفيلم و هو يدرك بأن تلك القصة مجرد خيال, لأنه في الواقع لا وجود لمصاصي الدماء. رغم أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن تأثير تلك الأفلام – التي تركز على الغرائزية بشكل أساسي – قد يكون له وقع سيكولوجي عنيف على أفكار و مشاعر بعض الشرائح من المراهقين, الذين لهم توظيف نفسي ذو طابع فصامي نموذجي, أي أنهم من النوع الذي يتسم بشخصية قابلة للإصابة بالفصام ( انفصام الشخصية ) في حالة تفككها على إثر صدمة عنيفة. خاصة إذا ما أدمنوا على تلك الأفلام, فقد يدفع بهم ذلك إلى التصديق بتلك القصص و الانفصال عن الواقع, و ما يترتب عنه ذلك من الرغبة أو الميل إلى إيذاء الآخرين بسبب الأفكار الغريبة التي قد تسيطر عليهم...

أما النوع الثالث من أفلام العنف – و هو الذي خصص له هذا المقال – هو ذاك النوع من الأفلام " الدعائية " الموجهة خصيصا إلى شريحة المراهقين, و التي تتعرض مواضيعها في العادة إلى قضايا ما يُعرف بالجرائم المتسلسلة, التي يقوم بها أفراد من ذوي الشخصيات المضطربة أو المضادة للمجتمع.

ربما يصعب علينا في البداية فهم ذلك النجاح و الانتشار الغريب الذي صنعته أفلام السفاحين لدى شرائح واسعة من المراهقين بشكل عام, و المراهقين الأمريكيين بشكل خاص. لكن الأمور حتما ستصبح واضحة إذا ما بينا مفاهيم العنف و السلوك العدواني و خلفياتها من وجهة نظر علم النفس الحديث من جهة, و محاولة إسقاطها على تلك الأفلام من ناحية نقدية, بأخذ فيلم الصرخة كنموذج لنفهم حقيقة النجاح و التأثير الذي صنعه, ثم نصل إلى بعض الملاحظات و الاستنتاجات و التحليلات في خاتمة هذا المقال.

إن ظاهرة السلوكيات العدوانية ليست حديثة العهد, فهي ظاهرة ظلت و ستظل ملازمة لحياة المجتمعات مهما اختلفت من حيث تركيبها و نوع النماذج, أو المنظومات العلائقية التي تحكم و تسير و تنظم حياة أفرادها و جماعاتها. و يُعرَّف السلوك العدواني في علم النفس عموما بأنه ذلك السلوك و الرغبة المشكلة من دوافع الغضب أو الحقد أو السيطرة, الموجهة لإيذاء الآخر أو إخضاعه و إذلاله أو القضاء عليه و تدميره. كما قد يأخذ السلوك العدواني منحى ضد الذات نفسها. في الحالتين معا يذهب علماء النفس عموما إلى تفسير البنية التحتية التي يقوم عليها السلوك العدواني, بأنها مشكلة من مشاعر الاستياء و الإحباط و اليأس و الخوف من الفشل و مشاعر النقص, و هي مشاعر تتوافق عموما مع الحالة النفسية التي يعيشها المراهق في العادة, و هذا ما يجيب عن جزء من السؤال. فهناك مجموعة من النزعات الداخلية الناتجة عن الإحباط و القلق التي تميز حياة المراهق, و بخاصة المراهق في الغرب, و التي تبحث عن سبل معينة للتجسد و التعبير عن نفسها. و لهذا تأتي أفلام العنف و القتل لتشكل محفزا مناسب لحركة تلك النزعات داخل النفس من خلال التفاعل مع ما تطرحه تلك الأعمال التي تصور السلوك العدواني في أقصى و أعنف حالات تجسده. و السبب الرئيس في ذلك هو الفراغ الذي يخلفه غياب القيم الأخلاقية التي كانت في الماضي تقترح طرقا معينة من التفكير و السلوك, للتعامل مع نزعات النفس السلبية و المشاكل التي تنجر عنها. لذلك صارت أفلام الرعب و القتل هي البديل " غير المعلن " الذي ينادي سيكولوجية المراهقين بصوت خافت ليواسيهم في قلقهم الدفين و اضطرابهم المنجر عن البحث عن معنى للذات و الحياة. إن لم نقل أنه يوحي إلى بعضهم بالحلول التي ينفسون من خلالها عن كبتهم و إشباع رغباتهم المنحرفة أصلا بسبب أساليب التنشئة و العيش الخاطئة..., و هكذا تصبح ظاهرة نجاح هذا النوع من الأفلام و تأثيرها وسط شريحة المراهقين واضحة و مفهومة.

لنأخذ فيلم الصرخة كمثال: إنه فيلم يحكي قصة مراهقة مطاردة من قبل قاتل مهوس بسبب قضايا عائلية و شخصية عالقة, و كي يحول حياتها إلى جحيم لا يطاق, فإن هذا الشخص المريض و الحاقد يبدأ في سلسلة من الجرائم التي تستهدف المحيطين و المقربين من الفتاة, إذ تأخذ جرائم القتل المروعة منحنى تصاعدي, يزداد عنفا و همجية كلما اقترب السفاح من ضحيته الرئيسية.

يمكن أن نميز العديد من العناصر الدرامية في الفيلم التي تحمل دلالات و رسائل سيكولوجية محضة, مثلا: يظل القاتل مجهول الهوية طيلة أحداث القصة رغم التركيز على أنه أحد معارف الشابة من خلال الحبكة, و كل ما يطلع عليه المشاهد هو شخص يرتدي سترة سوداء و يضع قناعا يوحي كثيرا إلى ملاك الموت, يحمل في يده سكين ذبح كبيره. و قد لا يعلم أكثر الناس السر النفسي الصغير عن " القناع ", فالكثير منا يظن أن القتلة و اللصوص يضعون الأقنعة في العادة ليبقوا هوياتهم مجهولة...., إلا أن الأمر الآخر الذي تجهله الأغلبية هو أن بعض البحوث النفسية اكتشفت أن الأقنعة تعمل على إضعاف الرقابة الذاتية على السلوك, أو بعبارات أكثر وضوحا فالفرد في حالة إخفاء وجهه خلف القناع يجد نفسه مستعد للقيام بأعمال تحمل قيمة سلبية سواء داخل نفسه هو أو داخل الجماعة أو المجتمع الذي ينتمي إليه, قد لا يستطيع القيام بها أو لا يقوم بها بالشكل المرجو إن كانت ملامح وجهه مكشوفة لدى الآخرين, بسبب القيم التي بُرمج عليها العقل الباطن منذ الصغر, و التي تؤثر على السلوك آليا. ناهيكم عن الموضوع الذي يُعبر عنه القناع ذاته, فتراجع الرقابة الذاتية تقابله عملية إدماج شكل أو موضوع أو رسالة القناع في الشخصية, و في الأفلام تصبح شخصية و سلوك القاتل واضحة تماما وضوح معالم و موضوع القناع نفسه ( ملك الموت, شبح, ذئب, مصاص دماء, زامبي, خنزير... ).

الشيء الآخر المثير في شخصية القاتل, هو الأداة التي ظل يستعين بها في ارتكاب جرائمه, و المتمثلة في السكين الكبير, ففكرة اختيارها أكد على الذكاء " السيكولوجي " لصناع الفيلم, إذ أنه كان بالمقدور اختيار أداة قتل أخرى أكثر تطورا من السكين و طريقة أكثر رأفة و سرعة من الطعن و الذبح. فالأمر هنا لا يتعلق بالسادية الكبيرة التي ميزت القاتل و تلذذه الكبير بإلحاق الأذى بالآخرين, بقدر ما يتعلق أيضا بالرجوع و النبش في أعماق نفس المشاهد لاستثارة أكثر نزعاته و غرائزه بدائية و وحشية, و التي تعبر عنها أداة القتل و الطريقة التي يتم بها ذلك, بشكل يذكرنا بتلك الوحشية الفطرية التي كان يصطاد بها إنسان ما قبل التاريخ, و غريزة القتل التي تحرك وحوش الغاب للانقضاض على فرائسها..., إنها صورة مماثلة لما يحدث في الأدغال حيث لا قانون و لا رقابة, أين يجد القوي المتمكن نفسه حرا في فعل ما يريد باسم القوة التي تمنحه الحق في فعل ذلك. و في حالة الفيلم و في هذا العنصر بالذات, يمكن إذن استخلاص بعض الرسائل التي يبعث بها إلى العقل الباطن.

الأمر الآخر الذي يثير الانتباه و الملاحظة, هو الصورة العامة عن ملامح شخصية القاتل التي يتم استنتاجها انطلاقا من أنماطه السلوكية المحددة, و التي تتمثل عموما في الذكاء الشديد و سِعة الحيلة, لكن الأهم و الأعمق من هذه الملاحظات المبدئية هو كون هذه الشخصية السيكوباتية تبدو في أغلب مراحل القصة مستمتعة تماما بما تقترفه من شر, و من أهم صور ذلك هو تفننها في ابتكار طرق القضاء على الضحايا رغم استخدامها لآلة قتل واحدة, و كأنها تمارس هواية لطيفة, و تلك المتعة مستمدة أساسا من براعة القاتل في التخطيط و التحكم في مجريات الأحداث, و هو أمر يوحي بالتفوق و يوحي أيضا بالرغبة في السيطرة و السادية و احتقار الآخر, و التي تعتبر جميعها من بواعث و محركات السلوك العدواني دائما. فالأمر يتعدى مجرد شخصية ذكية, لأنه و في مقابل ذلك, تظهر شخصيات الضحايا جميعها كقطيع من الحملان المسكينة, التي لا حول و لا قوة لها أمام بطش ذلك الذئب المتعطش لسفك الدماء و الذي لا يموت و لا يستسلم بسهولة. و الأهم من ذلك هو أن الضحايا و طيلة سير الأحداث يستمرون في محاولات الوصول إلى اكتشاف شخصية القاتل باستعمال قدراتهم العقلية في التحليل لكن من دون فائدة, لأن السفاح يبدو أذكى من الجميع, و بشكل ما يكاد يقترن ذكاؤه مع قسوة قلبه و برود عواطفه و كذا جرأته و اندفاعه لتنفيذ ما يعد به. لتصنع كل هذه التركيبة و العناصر السالفة الذكر في النهاية تفرد شخصية السفاح, و في ذلك رسائل و مفاهيم أخرى لعقل المراهق المتابع للفيلم, لأنه و مع الغوص الفكري و العاطفي مع تلك الأحداث, و كلما كانت طاقة المشاعر كبيرة و متلاطمة في النفس, و متفاعلة مع تلك الأحداث المخيفة و الصور النمطية التي حاكها السيناريو عن الشخوص في ذهن المتفرج ( القاتل الجلاد القوي و الضحايا الضعاف ) فإن أهم فكرة تخترق الوعي و تصل إلى أعماق اللاوعي المفتقر للمفاهيم الأخلاقية هي: لا أود أبدا أن أكون مكانهم و أفضل أن أكون مكانه هو... أو: له الحق فيما يفعل لأنه الأفضل و الأقوى...

لقد أثارت الحملة الدعائية لهذا الفيلم ردود أفعال محذرة وسط المجتمع المدني في الولايات المتحدة, و خصوصا من طرف جمعيات أولياء التلاميذ و المدرسين, الذين أعربوا عن قلقهم تجاه الانعكاسات النفسية و العقلية التي سيخلفها ترويج هذا العمل على المراهقين. لكن العمل عُرض وفقا للأجندة التي رسمت له, و قد أحدث المفاجأة فيما يخص إراداته التي فاقت كل التوقعات مقارنة مع ميزانيته المتواضعة, بل و دعم وجود شريحة من المراهقين أضحت تسمي نفسها: " المهوسون بأفلام الرعب ".

لكن الأهم من ذلك هو ما بدأ يحدث بعد أيام و أسابيع قليلة من عرضه, حيث شهدت بعض المدن الأمريكية بعض الأحداث الإجرامية البشعة, ارتكبها شباب قلدوا القاتل في الفيلم, و لم يكن مفاجئا أن يكونوا من المهوسين بأفلام السفاحين. و بطبيعة الحال فإن ذلك لم يكن ليثني منتجي الفيلم عن إنتاج جزء ثان و ثالث للقصة, رغم أن الجدل الذي كان دائرا في الأوساط الاجتماعية و الثقافية الأمريكية حول المغزى الحقيقي من ترويج تلك الأفلام في الشباب, كان قد وصل إلى أروقة مجلس الشيوخ الأمريكي, لكن دون فائدة ؟, فالأمر تحول إلى جشع صريح بالنسبة لمنتجي هوليوود. و بعد سنوات أطلت علينا أفلام أخرى من نفس النوع, أي أعمال تتناول القتل و العنف لأهداف دعائية و تجارية بالنسبة لصناعها, و لعل أشهرها كان سلسلة " سو " ( المنشار ) للمخرج " جيمس وانغ " التي فاقت كل حدود العنف و العدوانية, و قد لاقت نجاحا و شهرة عبر العالم, و طبعا ظلت تروج لمفاهيم القتل العنيف و الانتقام الشديد و القصاص المتوحش و أساليب التعذيب البدني و المعنوي الخالية من الرحمة...., رغم أن بعض المدافعين عن أفلام الرعب قد يقولون بأن المنشار وجِّه لفئة أكبر سنا من الجمهور. لكن الحقيقة هي أنه كان موجها لنفس الجيل الذي هضم الصرخة بمشاعره و أفكاره, فبعملية حسابية بسيطة سنكتشف أن الأعوام التي عُرض فيها فيلم المنشار, كان المراهق الذي شاهد الصرخة قد صار رجلا و بلغ السن " القانونية " التي تخوله مشاهدة ما يريد. (....؟)

أما فيما يخص فحص و تقييم آثار هذه الظاهرة, فقد يعتقد البعض عبثا أن أفلام القتل و الرعب الدعائية, و ما تحمله من مشاهد لسفك الدماء و عبث بالأحشاء و تفنن في طرق القتل و تلذذ بمشاعر السادية, تترك في المراهق آثارها بسبب عدم نضجه فكريا و انفعاليا دون الراشد, إلا أن الحقيقة غير ذلك, لأن الراشد معرض لنفس تلك المخلفات, سوى أن الأمر يختلف من ناحية " ديناميكية " إن صح القول. فالتأثير عند المراهق ينطلق من المشاعر كونها المسيطرة تقريبا على مجريات الحياة النفسية, و منها يصل إلى الفكر فيصوغه بطريقة معينة لينتهي إلى السلوك. أما عند الراشد فالتأثير ينطلق من العقل و الأفكار لينتقل و يبدأ في تغيير المشاعر لينتهي إلى تغيير السلوك. و من جهة ثانية هناك جانب " كمي " متعلق بعدد أفلام القتل التي يشاهدها المرء, فذاك الذي يشاهد هذا النوع من الأعمال الدرامية على مدار العام ليل نهار ليس كذاك الذي يشاهدها من وقت لآخر في سياق مشاهدة الأفلام بشكل عام. كما يتدخل جانب ثالث و هو حالة الإنسان الانفعالية, فقد نلتقي بشخص لم يشاهد فيلم قتل في حياته, و قد يصادف أن يشاهده و هو يمر بأيام من الاضطراب النفسي جراء ضغوط شديدة أو فشل كبير أو صدمة... فيحدث التأثير عليه, بل قد يكون ذلك التأثير أعنف عليه من أي شخص آخر. أما الجانب الرابع فهو ما يعرف في علم النفس بمسلمة " الفروق الفردية " إذ لا بد من أخذ الاستثناءات النادرة بعين الاعتبار دائما, حتى لا تختلط علينا الأفكار و الأحكام و تكون النظرة شمولية و دقيقة في آن واحد, فقد نلتقي بشخص يحب أفلام الرعب و القتل, لكنه عموما شخص مستقر و متحكم في حياته و واع تماما بما يحدث و العكس صحيح.

إن المقلق بشأن أفلام السفاحين الدعائية ليس متعلقا بآثارها التي تخلفها على الأفراد من ذوي الخلفيات النفسية الهشة, رغم أن تلك الآثار يمكنها أن تؤدي إلى بعض الاضطرابات النفسية التي تأتي ببعض المشاكل أو الأحداث المزعجة التي قد يتسبب فيها ألائك الأفراد المرضى, لأن تلك الأحداث تتسم عموما بطابع العزلة. لكن القلق الأساسي يأتي من حقيقة التأثير الذي تمارسه تلك الأفلام على الجماعات, لأن مشاهدتها أو الإدمان عليها يحدث في سياق جماعي, فهي تشكل فرصة لالتقاء أشخاص يحملون نفس الأفكار و التوجهات كما هو الشأن مع المهوسين بأفلام الرعب, الذين يتقاسمون نفس الخصائص السيكولوجية المختلة, فشبكة العلاقات الشخصية و الاجتماعية التي تبنى في إطار نشاط متابعة تلك الأفلام أو الاحتفاء بها, قد تعمل على تغذية تلك الخصائص و الميول و الأفكار الغريبة أو المرضية بين الأفراد بسبب الاحتكاك و التفاعل فيما بينهم, لا بل قد تخلق بوادر لظهور نوع من التجمعات أو الجماعات ذات الأفكار المتطرفة و المنحرفة مستقبلا, و من ثم يكون الخطر أكبر على المجتمع.

رغم كل هذا فسلطة الجشع و الطمع الهوليودي لا تزال تفرض منطقها على الجميع, حتى لو تعلق الأمر بنشر العنف و الهمجية و النزعات الدموية وسط الأجيال في أمريكا و العالم, و في الوقت الذي يقف فيه ساسة و عُقال أمريكا عاجزين عن وضع ضوابط لهذه التوجهات السينمائية المدمرة للعقل و المشاعر, و هذه المجازر السيكولوجية التي ترتكب في حق الأطفال و المراهقين باسم حرية الإبداع و الفن و الليبرالية, يبقى أضعف الإيمان هو التنبيه إلى هذه الحقائق من وقت لآخر, حتى يتذكر الشباب و الآباء و الأمهات ما يحدث من حولهم و من تحت أقدامهم

------------------------------

علاوه فنور - البليدة في 22/08/2010.

 

Partager cet article
Repost0
5 juin 2011 7 05 /06 /juin /2011 15:18

arton115037e36-1-.jpg

النخب السياسية الأمريكية و صياغة فكر الشباب: قوى الإعلام و الدعاية كنموذج.

عند نهاية الحرب العالمية الثانية بفوز الولايات المتحدة الأمريكية و حلفائها على دول المحور عام 1945, حصل تحول جوهري في مراكز القيادة و التأثير في العالم. فقد وجدت الولايات المتحدة نفسها فجأة كقوة عظمى مؤثرة يُحسب لها ألف حساب, بعدما كانت أوروبا الغربية التي دمرتها الحرب هي مركز التأثير الأساسي الذي تنسج من حوله كل الخيوط التي تتجاذب موازين القوى فيما بينها. رغم أن العارفين بخبايا السياسة و الإستراتيجية يقولون أن ذلك التحول لم يحدث بشكل اعتباطي جراء الحرب, و لكنه كان محسوبا سلفا لعدد من الاعتبارات الإيديولوجية و المستجدات الاقتصادية و الاجتماعية, التي ظهرت في الولايات المتحدة بعد سنوات من التخمر الهادئ, بفعل اكتمال نضج ثمرات مختلف النظريات الاقتصادية و الاجتماعية التي تم تطبيقها على هذه الدولة, و التي بدت نتائجها جد مشجعة للنخب المتحكمة و النافذة في واشنطن و الغرب, فاقتنعت أخيرا بأن أمريكا أضحت على استعداد تام لقيادة العالم الغربي الحر ضد البعبع الشيوعي الشرقي, الذي جاءت الحرب الباردة ضده كفرصة مواتية للبدء في تصدير تلك التجربة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية – على المستوى النظري على الأقل – إلى كل أصقاع العالم, و توطيد سطوتها على العقول داخليا.

و هكذا وجد أصحاب النظريات و علماء الاقتصاد الاجتماعي و علماء النفس أنفسهم وسط حقل تجارب كبير ينبئ ببروز إمبراطورية عالمية جد مؤثرة, حيث صادف ذلك الخطوات المتسارعة للتقدم التقني في شتى المجالات, و على رأسها الاتصالات, و الذي خلق تغيرات أساسية في نمط العيش و السلوك وسط الناس. فكان على القادة و صناع القرار في واشنطن تثبيت سيطرتهم على المجتمع من أجل توجيه فئاته المختلفة و على رأسها الشباب, لخدمة و تحقيق أهداف النخبة داخليا و خارجيا. فقد كان السؤال حينها: كيف نوجه طاقات الشباب المختلفة لخدمة مصالحنا الاقتصادية  داخليا, وأهدافنا العسكرية خارجيا, مع إبقائه بعيدا عن القضايا و الحقائق السياسية المختلفة ؟. وفق هذا المنظور تحددت سياسات النخب الأمريكية المتعاقبة تجاه فئة الشباب – و بقية الفئات الأخرى عموما – في المجتمع الأمريكي منذ أن خرجت الولايات المتحدة من عزلتها عالميا كقوة فاعلة و مؤثرة, و قد قامت هذه السياسات على " صياغة " عقل الشاب الأمريكي بما يتماشى و مخططات و أهداف الامبريالية الأمريكية.

لو القينا نظرة معمقة على الأجيال الأمريكية المتلاحقة منذ نهاية الحرب العالمية و إلى اليوم, سنكتشف علاقة ارتباطيه و تفاعلية جد وثيقة بين نمط تفكير هذه الأجيال و سلوكها, مع التوجهات العامة التي سارت عليها مختلف وسائل الإعلام و الدعاية في المجتمع الأمريكي, و ما قامت بتوريثه من أفكار محددة تجاه مواضيع متشعبة. و أنا هنا أود الإشارة بشكل خاص إلى وسائل الإعلام الأكثر جذبا للشباب و هي: التلفزيون و السينما و المنشورات الشبابية. و قد يعتقد البعض أن المجتمع الأمريكي و خاصة فئة الشباب, هم أكثر من يتمتع بثقافة التحرر بين الأجناس, غير مدركين أن " ثقافة التحرر " هذه هي نفسها مفهوم و مصطلح مضبوط سلفا, تم تشريبه لعقول هذه الأجيال المتعاقبة " قصرا " عن طريق تلك الشبكة الهائلة من وسائل الإعلام و ما تنشره أو تبثه من مواد, و التي تم ضبط توجهاتها و أهدافها العامة أواسط الخمسينات من القرن الماضي, على أساس نتائج الدراسات النفسية و الاجتماعية التي وضعت على طاولة القادة و صناع القرار الأمريكان.

إن العارفين بعلم الاجتماع يؤكدون في هذا السياق أن التغيرات الكبيرة و السريعة التي تمس مجتمعا ما في فترة زمنية قصيرة, مقارنة مع الفترات الزمنية الملائمة التي تساير قدرة المجتمع على تبني و إدماج المفاهيم و المعايير التي تأتي بها تلك التغيرات, هي تغيرات غالبا ما تؤدي إلى اضطرابات عنيفة داخل المجتمع الخاضع للتغيير, إلى حد قد يجعل الأنظمة الحاكمة عاجزة عن مسايرة تلك الاضطرابات و احتوائها, و هي التجربة التي رأيناها في الكثير من النماذج عبر التاريخ المعاصر. لكن التغير الكبير الذي عاشه المجتمع الأمريكي و على رأسه الشباب منذ أواسط القرن الماضي و إلى هذا اليوم,  خاصة على المستوى منظومة المفاهيم الأساسية, التي تضبط سلوك الفرد و تحدد علاقاته مع نفسه و مع الجماعة التي ينتمي إليها و مع السلطة التي يخضع لها و مع العالم الخارجي, قد تم التعامل معها بقدر كبير من الدهاء و المرونة عبر سلاسل متدرجة من الأطروحات الإعلامية – التربوية, التي روجت لبعض المفاهيم. فمفهوم التحرر مثلا عند بداية ظهوره في وعي الشباب الأمريكي أواسط الخمسينات من القرن الماضي عبر موسيقى الروك, كان يعبر عن الرغبة في الانعتاق من السلطة الوالدية و الاستمتاع بالحياة و اللهو إلى أقصى درجة. أما اليوم فقد تطور هذا المفهوم و وصل إلى أقصى درجاته – عبر نفس الوسائل الإعلامية و موادها – ليُشير إلى قبول الشذوذ الجنسي و المثلية و التحول الجنسي كأمر عادي, بل و كحق لمن يرغب في ذلك باسم الحرية.

إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا لم يكن هذا النوع من الأفكار مطروحا سنوات الخمسينات و الستينات كمفهوم للتحرر ؟. رغم أن كلمة " تحرر " هي نفسها الموجودة في الحالتين و قد تم الترويج لها عبر نفس الجهات ؟. و الجواب هو أن دوائر النخب كانت على علم بالقانون الاجتماعي المذكور أعلاه, فالمجتمع, و خاصة السلطة الأبوية و السلطة الكنسية لم تكونا على استعداد لقبول ذاك النوع من الأفكار الثورية على شاكلة حرية الحياة و الممارسة الجنسية, لأنها كانت ستؤدي إلى اضطرابات اجتماعية و سياسية و قانونية و أخلاقية قد تهدد استقرار الدولة. و الحل كان في تمرير تلك المفاهيم بالتدريج على مدى أعوام ,عبر كل المواد الإعلامية و الترفيهية التي كانت تبثها وسائل الإعلام التابعة للنخب المسيطرة و جماعات رجال المال الكبار في الدولة.

لقد كان الهدف الأول لهذه الدوائر السرية أو شبه السرية هو تربية جيل من المستهلكين لسلع الشركات و المجمعات الصناعية المختلفة التي كانت تقوم عليها ركائز الأرباح التجارية الداخلية. بدءا من رقائق البطاطا و المشروبات الغازية و الأكلات السريعة ( و هي ابسط هذه الصناعات ) مرورا بالألبسة و النشاطات الترفيهية كمشاهدة الأفلام و التردد على صالات الرقص... وصولا إلى التعلق بماركات السيارات..., و قد يستغرب المرء هذا الأمر. لكننا لو جمعنا بين كل هذه العناصر السالفة الذكر مع المواطن أو الشاب الأمريكي ستتضح لنا صورة من قسمين: 1 منتجات وطنية لشركات ذات أسهم خاصة. 2 نمط حياة معين أو ثقافة عيش قائمة بذاتها مرتبطة بتلك المنتجات ( ثقافة العيش الأمريكية ). و كلاهما يرتبط بالآخر عبر ما يعرف " بالسلوك الاستهلاكي " الذي ركزت عليه وسائل الإعلام كل جهودها طيلة هذه العقود, من أجل خلق كل الاتجاهات و التصورات العقلية و الانفعالية الممكنة لصياغته, بحيث تجعل من الشاب يتحول إلى أكبر داعم لأرباح تلك المجمعات سواء برغبته و وعيه أو بدونهما. و طبعا كان لابد من المرور – كما أسلفت الذكر – على إعادة تنظيم تفكير و سلوك هذا المواطن, عبر موجات متعاقبة من الرسائل التربوية التي روجت لها مختلف المسلسلات و الأفلام و الأغاني المصورة و المجلات...

إن السر الكامن وراء " سياسة التقطير " التي اتبعتها هذه القوى الإعلامية في تشريب عقول الشباب المبادئ و المفاهيم التي تخدم و توطد مفاهيم الليبرالية المتوحشة, هي كونها ركزت على ما أسمِّيه مبدأ " التطويع التدريجي ". فإن كانت نقطة قوة شاب سنوات الستينات – على سبيل المثال – هي ارتباطه القوي مع أسرته و مثابرته على الذهاب مع أفرادها إلى الكنيسة أيام الآحاد, فإن نقطة ضعفه كانت تجاه تلك الموسيقى الخفيفة الصاخبة التي تتيح قدرا من الاستمتاع و التنفيس عن مكبوتات النفس عبر القفز و الصراخ, و الحل بالنسبة للنخبة كان في إغراق سوق الموسيقى بعدد لا يُحصى من تلك الأسطوانات و الترويج للحفلات و الأغاني و النجوم الذين أخذوا يتحولون إلى المثل الأعلى للشباب, في حياة الاستقلال عن السلطة الوالدية و الكنسية. و الذين راحوا يشكلون صورة جديدة عن الشاب المثالي المرغوب فيه و عن المثالية نفسها, حيث يصير الإنسان المتمرد و الشقي و المتهور أكثر جذبا للانتباه و الإعجاب, في حين يصبح الشاب المنضبط و الملتزم و الواعي بما يجري رمزا للوساوس و الرجعية و الملل...

و هكذا تم علاج مشكلة الجيل الثاني الذي أتى من ذاك الجيل الأول الذي تم استهدافه, و هو أنه نشأ منقوصا من مفاهيم الوحدة الأسرية و الخضوع لتعاليم الكتاب المقدس, و بذلك كان أكثر انصياعا من سابقه لسلطة من يتحكمون بوسائل الإعلام و يديرون توجهاتها و موادها حسبما تمليه مخططات القادة الكبار من أباطرة الشركات و المصارف, التي ظلت تجني أرباحها الاقتصادية انطلاقا مما تزرعه من رؤى و أفكار في عقول النشء. و بهذه السياسة الذكية تم إضعاف الضمير الاجتماعي و وعي المجتمع بمصالحه تدريجيا جيلا بعد جيل, إلى أن فُرض عليه الخضوع التام لسلطة وسائل الإعلام و مؤسساته, إذ أنها وصلت مصالح تلك النخب بالفكر الجمعي للناس و صورتها على أنها مصالحه هو, بحيث جعله ذلك يُسلم نفسه من دون إرادة إلى النخبة. و هكذا تحققت الأهداف الداخلية للزمر الأمريكية المسيطرة, فأوجدت مجتمعا و شبابا تقوم حياته على الاستهلاك و الترفيه بشكل أساسي, و هو الأمر الذي عمل مع العقود على تقليص تفكير و ثقافة الأمريكيين العامة و نظرتهم نحو الحياة, و حصرها في أضيق نطاق ممكن. فبرامج الغناء و الرقص و البرامج التفاعلية و الستار أكادمي أو البرامج التي على شاكلتها, و تلفزيون الواقع الذي يصور حياة المشاهير ونجوم التمثيل و الأزياء و الغناء الفارغة, القائمة على الترف و الاستهلاك و النرجسية ( المُطعَّمة بشيء من الأعمال الخيرية لإرباك العقول )..., كل هذه الملهاة الكبيرة التي انتشرت بشكل غير عادي و أحكمت قبضتها على وعي و لاوعي الشباب, جعلت من عقول جيل كامل من المراهقين و المراهقات ذات تفكير سطحي ساذج للغاية, فقد انتزعت منها البصيرة قصرا و بكل سلاسة و مرونة. و لا عجب إن أكدت الاستطلاعات ذات يوم أن الأمريكان هم من أكثر الشعوب سذاجة في التفكير و بعدا عن السياسة و جهلا بجغرافيا العالم و مشاكله السياسية الحقيقية.

و في هذا السياق بالذات, عملت وسائل الإعلام على خدمة أهداف النخبة الخارجية, المتمثلة في ضمان و حماية المصالح الحيوية للشركات الأمريكية الكبرى, و بالأخص إمبراطوريات النفط و السلاح, و قد كان ذلك من خلال مستويين:

المستوى الأول كان العمل على صياغة و توجيه أفكار و مشاعر الشاب الأمريكي – و المواطن الأمريكي بشكل عام – نحو صورة بلده في ذهنه و علاقته مع العالم الخارجي, فالأمثلة هنا لا تعد و لا تحصى عن تلك الأفلام الضخمة التي ظلت هوليوود تقصف بها عقل المشاهد الأمريكي, عن أسطورة الولايات المتحدة, الدولة الخيرة التي تحارب شرور العالم و أشراره من أجل نشر الحرية و الأخوة و المساواة, و هي في ذلك تذكرنا تماما بالدعاية الرومانية القديمة عن روما الخيرة المتحضرة و الشعوب البربرية المتوحشة التي كانت تعيش على تخومها... فالفكرة الأساسية التي قامت عليها الدعاية الهوليودية على مدار عقود, هي إقناع المواطن في أمريكا بأن كل حرب تخوضها بلاده ضد دول و شعوب أخرى هي حرب من أجل أهداف خيرة بالضرورة, بل إنه إن تطوع في صفوف الجيش الأمريكي فسيكون بطلا في نظر عائلته و صديقته و العالم بأسره, فإن مات و قتل في الحرب فسيكون ذلك من أجل بلده, فهو يحارب من أجل قضايا عادلة لا تزيغ عن الحق.

إن الأمر الذي يدعو للملاحظة هنا, هو أنه و على مدار كل هذه العقود و منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية, لم تسترح أمريكا و لم تعش في سلام, لأنه و مع كل عقد من الزمن كان لا بد من ظهور عدو لدود و خطير " فجأة " في كل مرة, ليعكر صفو استقرارها و استقرار العالم. فبعد ألمانيا و اليابان, جاءت روسيا و فيتنام و كوريا الشمالية, ثم جاءت ليبيا و العراق و إيران, ليتحول الأمر في العقد الأخير إلى حركات و منظمات هلامية عابرة للحدود و القارات, لكنها تتخذ من العالم العربي و الإسلامي مركزا كبيرا لتحركاتها ؟. و طبعا لكل ذلك نصيب لخيال هوليوود و شره الصحافة الأمريكية, حيث تصبح الأولوية هنا هي خلق فكرة نمطية ثابتة نسبيا تجاه هذا العدو و البلدان القادم منها, لتتحول إلى بارانويا وسط المجتمع تجاه القضايا و الأحداث الدولية المرتبطة مع هذا العدو و مع هذه البلدان, و التي تفرض فكرا أحاديا على عقل الشاب الأمريكي, يُحتِّم عليه تصديق القصص الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية و البنتاغون, فيندفع إما لأسباب اقتصادية و نفعية, و إما لأسباب دينية و لاهوتية, و إما لأسباب وطنية وعاطفية, للالتحاق بمشاة البحرية للدفاع عن عائلته و عما يوصف بمصالح الوطن. فينتهي به المطاف يحرص البؤر و الآبار النفطية حول العالم, و يستهلك الأسلحة و الذخائر التي تصنعها شركات السلاح في أجساد و ديار العدو..., الأسطول الأمريكي السادس مثلا, ليس بأسطول الشعب الأمريكي بقدر ما هو " أسطول رجال المال و الأعمال الأمريكان و بامتياز ".

أما المستوى الثاني الخاص بعمل وسائل الدعاية و الإعلام الأمريكية في خدمة مصالح النخبة خارجيا, فيتمثل في ذلك المنحى الذي تبلور بشكل قوي بعد انهيار الكتلة الشرقية و هيمنة الولايات المتحدة اقتصاديا و عسكريا على العالم, حيث كان التركيز و لا يزال على تصدير نفس المفاهيم التي شربت للشباب الأمريكي طوال عقود, لكن هذه المرة نحو كل شباب العالم, و بالأخص شباب الدول الموضوعة في أجندات الإستراتيجيين و الساسة و الشركات الامبريالية, و على رأسها دول الشرق الأوسط. فهذه الآلة تعمل منذ قيام القطب الواحد و ظهور الفضائيات و الإنترنت على غزو عقول الشباب, و هي تعمل بنفس المبدأ الذي استخدم في أمريكا ( التطويع المُبطّن التدريجي ). سوى أن فعالية هذه الإستراتيجية تضاعفت مما كانت عليه, و ذلك راجع لعدة عوامل. منها تطور أساليب و تقنيات التأثير المستمدة من المعارف التراكمية الهائلة التي كدستها تجارب وسائل الإعلام و موادها المستخدمة, في صياغة الفكر و التعامل مع الجماهير منذ القرن الماضي, و منها التطور التقني الكبير الذي سمح بالتعدد و الثراء في الوسائط الإعلامية و الدعائية المؤثرة في الشباب, و منها عوامل متعلقة بتلك الأقطار نفسها, كمخلفات الاستعمار التقليدي, الأوضاع الاقتصادية و التعليمية المتدنية, ضعف الوعي الوطني و إشكاليات الهوية داخل المجتمع, و عدم كفاءة الأنظمة السياسية في مواجهة تلك القوة الناعمة الآتية من وراء المحيط الأطلسي.

إن أخطر ما في هذا الغزو هو أنه يعتمد على تسريب المفاهيم – إلى جانب مفاهيم التحرر المغلوطة – التي تتلاءم مع السياسات الخارجية لواشنطن و حلفائها في منطقة الشرق الأوسط. فإن كان الشاب الأمريكي يُربى من أجل أن يكون مستهلكا داخليا يركض وراء حياة الترفيه و الجنس و الأكل, تاركا السياسة و الحكم لأصحابهما, ثم يتحول إلى جندي محارب عنيف أثناء خدمته العسكرية, يحمي مصالح الشركات الامبريالية في الخارج دون أن يحاول فهم حقيقة ما يجري. فإن هذه القوة الناعمة تركز جهودها على تحويل الشاب العربي أو المسلم إلى مستهلك للسلع الأمريكية يعيش وفق نمط العيش الغربي القائم على الفردانية و المادية و البحث عن اللذة. لكنه لا يتحول إلى جندي مقاتل من أجل مصالحه الوطنية أو القومية, بقدر ما تركز جهود قوى الدعاية على تحويله إلى رجل مخملي و خروف وديع, لا يكترث كثيرا لما يحدث في منطقته التي تتطاحن القوى العظمى من أجل ثرواتها, بينما يستغرق هو في الأحلام الوردية الشهية التي تغرقه فيها الأغاني المصورة التي تفيض بها بعض الفضائيات العربية, والتي قامت الآن مقام الفضائيات الغربية في تنفيذ هذه البرامج و المخططات ؟. فقد صارت تشكل امتدادا لتلك البضائع العالمية من مواد الإعلام المقتحمة للبيوت من دون استئذان, و التي سلبت الأطفال و المراهقين من آبائهم و أسرهم لتبدأ في تجهيزهم و تعويدهم ليكونوا في المستقبل مجرد قطيع من الغنم, يستهلك كل ما يلقى إليه في الزريبة دون لحظة تفكير أو تساؤل. و الهدف الأكبر من كل هذه البرامج هو تربية شعوب عربية و إسلامية مخدرة و مهزومة, ليسهل على القوى العظمى هضم الثروات الهائلة التي يكتنزها الشرق الأوسط لصالح الحسابات المصرفية لزمر صغيرة جد نافذة, و هو الأمر كذلك مع بقية شعوب العالم الثالث بصفة عامة, ففي المُحصلة هذا هو المُبتغى الحقيقي من العولمة.

و وصولا إلى هذا الحد, فقد ظل نوع من الجدل دائرا في المجتمع الأمريكي منذ سنوات, حول سطوة وسائل الإعلام و الدعاية على عقل المواطن الأمريكي البسيط, و كثيرا ما يقترب هذا الجدال ليلمس الجانب الأخلاقي لكل هذه الجعجعة الكبيرة التي تحدثها هذه الطاحونة الهائلة, التي تلتهم العقول و الأفكار و تمتصها إلى داخلها كالثقب الأسود, لتسوي منها طحينا ممزوجا بلون و مذاق واحد, بحسب رؤية من يتحكمون في الأمور في الظل. و السؤال كان دوما: هل تربية شبابنا ( الشباب الأمريكي ) و برمجته ليكون فم و معدة الاقتصاد داخليا, و يكون الذراع الفولاذية الحامية لمصالح أمريكا خارجيا هو أمر سيء إلى هذه الدرجة ؟.

إن المؤكد هنا هو أن هذه الأجيال المتتالية من الأمريكيين, اعتقدت لوقت طويل أنها خدمت و ضحت من أجل مصالح و استمرار الولايات المتحدة – رغم أن ذلك صحيح إذا نظرنا إليه من زاوية المواطن الأمريكي العادي – لكن لم يكن يهم كثيرا إن كانت مؤسسات الإعلام الأمريكية من أكثر قوى الإعلام و الدعاية انحيازا و أنانية و إرباكا للعقول في العالم, لأنها في نهاية المطاف في قبضة جماعات قامت برامجها على بعض النظريات الخاصة بالسُّلطة و الحكم, و التي وضعها أناس هم في النهاية مجرد بشر, و هنا مكمن الأهمية, فصعود القوى العظمى و انهيارها اعتمد دوما على صحة أو قصور و غباء تلك النظريات التي قامت عليها تلك القوى, و السؤال الأصح هو: إلى متى ستظل هذه النظريات الامبريالية صالحة و ناجحة ؟. و الأجوبة لا تزال تتضح لنا عاما بعد عام, بعد الفشل السياسي و الأخلاقي الكبير في العراق و أفغانستان, و زيادة نسب الكراهية في العالم تجاه أمريكا و تضاعف الأخطار على مصالحها, و انتشار وسائل و تقنيات التعبير الحر و المعارضة ذات الجودة و التأثير عبر الانترنت, التي أضحت تفضح أي نوع من الجرائم و الأسرار.. و تضاعف معارضة السياسات الأمريكية و حروبها حتى من طرف الشعوب و الحكومات التي كانت في وقت ما مقربة منها, و انتشار الوعي المتزايد داخل المجتمع الأمريكي حول حقائق تلك الدوائر الضيقة التي ظلت تستثمر في خوف الأمريكيين لأهداف انتخابية و سياسية و خارجية, و سخرت جيوش أمريكا الممولة من ضرائب المواطن الأمريكي البسيط الذي لا يزال عاجزا حتى عن تأمين نفسه صحيا, من أجل تحقيق مصالح لا تمد بصلة لمصلحة الأمريكيين على المدى المتوسط و البعيد.

 إن مؤسسات الإعلام و الدعاية التي تعمل لضرب وحدة النواة الأسرية و تروج أساليب العيش الخاطئة, و تشجع الانحلال الخلقي و الحياة المادية و تهمش الجانب الروحي و تحط من القدرات العقلية للناس, و تنشر الارتياب و الشكوك و الاعتقادات الخاطئة وسطهم, صانعة لهم الأعداء باسم الحرية, لتجعل من الفرد هائما بلا مبدأ و لا هدف, كي يسهل الاستيلاء على ذاته و إرادته و توجيه أفكاره, و جعله مجرد رقم في مصفوفة النظام, يتم استعباده و جلده باسم الحرية و الديمقراطية, هي دعاية و إعلام لا يعمل للصالح العام أو الصالح الوطني مطلقا.

-------------------------------

فنور علاَّوه - قسم علم النفس, جامعة البليدة.                             الجزائر في 10-08-2010.    

Partager cet article
Repost0
24 mai 2011 2 24 /05 /mai /2011 22:13

Career_Development-1-.jpg

متى يتعلم الجزائري إفساح الطريق لنفسه ؟

    قرأت ذات يوم في أحد الكتب مقولة جميلة مقتبسة عن المفكر " رالف وامرسن " يقول فيها: إن العالم يُفسح الطريق للمرء الذي يعرف إلى أين هو ذاهب ".

   استوقفتني هذه المقولة الصائبة مطولا و أنا أفكر في مدلولاتها العكسية التي نعيشها في واقعنا اليومي, لأنني قلت بأن غالبية الجزائريين يفتقدون لثقافة تعتبر من بين أهم الثقافات و أنماط التفكير التي يحتاجها كل إنسان في حياته, لأنها تعتبر من أساسيات صيرورة حياة كل عاقل, سواء على المستوى الشخصي و الفردي, أو المستوى الجماعي و المؤسساتي بمختلف صوره, هذه الثقافة هي: " ثقافة التخطيط و الأهداف ".

في الحقيقة لم أجد صعوبة في رؤية عشرات الأمثلة عن هذا الواقع المؤسف في حياتنا اليومية, و لآخذ الشريحة التي أنتمي إليها شخصيا و هي شريحة الطلبة الجامعيين كمثال. يمكن أن نسأل أي طالب في الجامعة إن كان يحمل أفكارا أو تصورات شخصية عن المسار الذي يسلكه و هل يملك رؤية واضحة ( هدف ) عن الواقع الذي سيخلص إليه عند إتمام دراساته العليا, و هل وضع كل ذلك موضع التنفيذ في خطة مرسومة من أجل الوصول إليه...., و قد التقيت شخصيا بزملاء كثر لا يعلمون حتى لم هم يذهبون إلى الجامعة يوميا, و هنالك نسبة أخرى من الذين يدركون لِم هم بصدد الدراسة, لكنهم يُعولون على عامل الغيب و ما يخبئه لكل واحد فيهم مستقبلا, أي أنهم جعلوا من مستقبلهم أحجار للنرد في يد الأيام و الأشخاص و الظروف ظنا منهم أن ذلك متعلق بالقدر...., بالمختصر المفيد أن لا أحد يملك خطة عمل خاصة به يقوم بتنفيذها من أجل الوصول إلى الهدف الذي يود الوصول إليه في حياته, لأنه و بكل بساطة فالهدف نفسه غير موجود أصلا أو غير واضح في الغالب, فكيف يمكن أن توجد خطة ؟.

لقد حاولت تفهم كل التفسيرات المحتملة التي قد يحاول الكثيرون تجنيدها من أجل  تبرير عدم اتخاذهم لنهج التخطيط ثقافة يسيرون بها في مختلف أوجه حياتهم, لكنني لم أجد ما يبرر ذلك كنتيجة نهائية, حتى عندما عدت إلى العوامل المركبة و المتمثلة أساسا في التربية سواء في البيت أو في المدرسة, و رغم أنهما ساهما في إنتاج هذه الأجيال العاجزة عن التخطيط و التسيير لأمورها و أمور غيرها, وجدت أن ذلك ليس كافيا من أجل جعلهما – أي الأسرة و المدرسة – السبب الرئيسي في هذه الظاهرة, لأنه هنالك أشخاص – على قلتهم – يعيشون بيننا و هم نتاج نفس البيئة الاجتماعية و الدراسية تقريبا, يمتلكون حس التخطيط لكل صغيرة و كبيرة في حياتهم و ينجحون فعلا في تحقيق أهدافهم, و هنا يمكن طرح السؤال على المتحججين: ما الفرق بيننا و بينهم ؟.

أما بالنسبة للحجة الأكثر سذاجة و التي تدفع بالبعض إلى عدم التخطيط لأمور حياتهم, و المتمثلة في أن الحياة تحمل دائما ظروفا و ملابسات و مفاجآت و عقبات تجعل من التخطيط مجرد هراء أمام قرارات القدر و واقعه المُسبق, إضافة إلى مُعوّقات الحياة و ظروفها غير المنتظرة...الخ. فهذا الطرح يثير شيئا من السخرية, لأنه إن لم تكن أشياء كتلك المذكورة أعلاه موجودة في حياة المرء, فما فائدة وجود شيء اسمه التخطيط أصلا ؟...

إن أول شيء لا بد لنا أن نعرفه هو أن التخطيط سلوك فطري يوجد في كل إنسان و أن كل فرد يخطط للكثير من صغائر حياته يوميا من دون أن يشعر بذلك, سواء كان من المتذوقين لهذا " الفن " أم من الساخرين منه. فنحن نعتمد على التفكير من أجل ترتيب الأمور التي سنقوم بها صبيحة اليوم الموالي, منذ لحظة استيقاظنا من النوم و على مدار السعات المتتالية, نحن نفكر و نرتب الأولويات, و ننضم الأفكار و القرارات المعبرة عن مختلف السلوكيات العملية التي سنقوم بها في وقت محدد, سواء في ذلك اليوم أو في مرحلة معينة....., لذلك نحن مُخططون بالفطرة و عموما هذا من بين أهم الفروق التي تفصل بيننا و بين البهائم.

لكنني أود أن أشير في هذا المقال إلى ذلك النمط من التخطيط الذي نفتقده كثيرا في حياتنا, و الذي يعتبر ثقافة قائمة بذاتها خاصة في هذا العصر, و أقصد به " التخطيط الاستراتيجي "... قد أبدو هنا أني أتحدث عن أمور أكاديمية لا تخص سوى النخبة الفكرية في المجتمع, لكن الأمر ليس بهذا التعقيد, فماذا يعني أن يكون الإنسان مخططا استراتيجيا في حياته هو قبل أي شيء آخر ؟.

ببساطة, هو أن يضع المرء لنفسه هدفا معين بدقة, بحيث يتلاءم مع واقعه الموضوعي وحاجاته التي يريد تحقيقها في أجل معين, و ما يلزمه هو خطة عمل مضبوطة من كل الجوانب, بحيث يحدد الإنسان قدراته و موارده إلى جانب نقائصه و عيوبه المختلفة, ثم يحدد الطريقة التي سيسخر بها تلك الإمكانيات و يعوض بها تلك النقائص للوصول إلى الغاية المسطرة, مع الأخذ في الحسبان عامل الزمان و المكان, و كذا افتراض أهم العقبات أو الطوارئ التي من شأنها خلق صعوبات في طريق تحقيق الهدف و اقتراح الحلول المسبقة لها, أي أن تتضمن الخطة قدرا عاليا من المرونة....لكن هل هذا ممكن في حياة جزائري اليوم, و هل يمكن له أن يصبح مخططا استراتيجيا لحياته ؟.

إن تتبع النمط العام الذي صار يفكر به الإنسان الجزائري لا سيما المواطن البسيط يبرز الكثير من المؤشرات التي قد تقف عائقا أمام نشر ثقافة التخطيط الاستراتيجي في حياة الناس, و يبرز ذلك عندما نسأل أي مواطن أربعة أسئلة, يقول خبراء التنمية البشرية أنه إن تمت الإجابة عنها بسلام دل ذلك على أن صاحب الهدف مُخطط بالفعل و يستطيع تحقيق ما يهدف إليه إن وضعه عمليا في الفعل و أصرَّ على بلوغه. فبعد أن نسأل الشخص عن هدف مُحدد يريد تحقيقه, نطرح عليه التالي: لماذا ؟, متى و أين ؟, و الأهم: كيف ؟.

برأيي أن السؤال الأخير هو الذي سيبرز التناقضات الفكرية و النفسية التي يعاني منها الفرد الجزائري, فإن كان يعرف هدفه بالضبط, و يعرف لماذا يريده و أين و متى يُحققه, فإن الإشكال و العجز يبرز في " كيف يصل إليه " أي أنه يفتقد لخطة عملية, و عندما نسأل عن سبب افتقاد هذه الخطة الموضوعية قد نسمع العديد من الإجابات المحملة بالأعذار و النقد و التهكم و اللوم, التي تمس الظروف و الراهن العام اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا... كما قد تمتد لتمس الجانب الديني و العقائدي للتهرب من الواقع, و ذلك راجع إلى الطبيعة التي تقوم عليها العقلية الجزائرية, التي تعتبر نتاج لظروف كثيرة و متراكمة, لابد من النظر فيها. لكن يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط على الأقل من أجل الاختصار, ثم ربطها بظاهرة افتقادنا لثقافة التخطيط:

-1 يقوم نمط التربية الجزائري عموما على الأوامر, أي أن الجزائري و منذ صغره يتلقى التعليمات حول ما يجب و ما لا يجب فعله, دون شرح موضوعي أو نقاش. فالأب و عند وضعه لهدف أو غاية ما تهم مصلحة الأسرة, فهو يخطط لذلك وحده, كما أن تسيير أمور العائلة الجزائرية عموما من اختصاص رب البيت أو الأبوين معا في أحسن الأحوال, دون إشراك الأبناء في ذلك و لو بصفة رمزية.

-2 يمتد الأمر إلى المدرسة, و هي البيئة الثانية بالنسبة للطفل بعد البيت, فمن الغريب أننا نرى المدرسة الجزائرية – و رغم كل الإصلاحات التي عرفتها – لم تتخلص بعد من العقلية " البافلوفية " في التدريس, و ذلك من خلال النمط الذي لا يزال المعلم و الأستاذ الجزائري يتعامل به مع التلميذ على أساس أن هذا الأخير مجرد آلة تتلقى المعلومات وفق قاعدة " مثير و استجابة ", و ذلك راجع – برأي كاتب هذه الأسطر – إلى أن الإصلاحات التي مست القطاع ركزت كثيرا على البرامج البيداغوجية و أهملت واقع تطوير ذهنية المعلم خاصة ( الجانب الإنساني و العلائقي ) في التدريس, و ما يحدث هو أن  المعلم الجزائري و في الغالب لا يزال في لاوعيه ينظر إلى التلميذ نظرة " شيئية " فيما يخص تلقينه المعارف, و يثبت ذلك في أنماطه السلوكية تجاه من يُدرس.

-3 عند النظر إلى السمة الأساسية التي يتميز بها المجتمع الجزائري و منذ القدم, نلاحظ أنه مجتمع عقائدي, أي أن الكثير من قيمه و أفكاره مبنية و منبثقة من أسس عقائدية و دينية, و من بين ما يعرف عن الجزائريين أنهم شديدو الاعتقاد بركن " القضاء و القدر " المشكل لأركان الإيمان المعروفة, و من ثم فهم يربطون كل صغيرة و كبيرة من حياتهم بهذا الركن, و مع التوارث الاجتماعي لهذه العقلية فقد عمل ذلك على جعل كل ما يحدث في حياتنا من عمل القدر, إلى درجة أنه خلق نوعا من الخلط المعرفي ( الذي عززته عقود طويلة من الاحتلال الناسخ و المدمر للهوية و الفكر ), الذي جعل الإنسان الجزائري لا يعرف تحديدا ما هو القضاء و القدر و ما هي المسؤولية الشخصية, فبات يخلط بين المفهومين في غالب الأحيان.                                                    

تلكم كانت ثلاث نقاط عامة تخص البيئة التي يترعرع و يعيش الجزائري في كنفها, و تفحصها عن قرب يجعلنا نخرج بعشرات الاستنتاجات عن الجوانب العقلية و النفسية الطاغية علينا كمجتمع,  و المؤدية إلى فهم الكثير من المشاكل, و يمكن إيجاز بعض هذه النتائج كما يلي:

-1 يجعل نمط التربية في الأسرة المذكور آنفا الفرد ينمو بطريقة " كبتية ", أي أنه ينمو و هو محروم من إبداع أفكاره و التعبير عنها و المشاركة بها في تسيير أمور الأسرة, ناهيكم عن أن التثبيط الاجتماعي الناجم عن الاستهانة أو السخرية من أفكاره يجعله مستقبلا غير جاد في اختيار توجهاته الشخصية وغير واثق من مواقفه... و بالضرورة " شخصا غير ملتزم بشيء ", فضلا عن جعله غير مهتم أصلا بالقضايا المطروحة التي تمس جماعته و من ثم تمسه شخصيا, فهو لا يشارك فيها عن قناعة ذاتية بل يفعل ذلك إما مُجبرا أو مُتكلفا.

-2 الواضح اليوم للعيان – خاصة الأساتذة الجامعيين بشكل خاص – هو العجز الغريب الذي يسيطر على عقولنا كطلبة في الإتيان بالأفكار و مناقشة المواضيع و التركيز الكامل على المادة المعرفية المطروحة علينا, فنحن لا نستطيع التحليل و الاستنباط و الإسقاط.... إلا بمساعدة ثقيلة من الأستاذ, و ذلك راجع إلى النمط التعليمي البافلوفي الذي سرنا عليه طوال حياتنا, و الذي جعلنا عاجزين عن الاستقلال بذواتنا المفكرة, فإن كنا كذلك – و نحن نخبة المجتمع و مستقبل مؤسساته , أو يُفترض أننا كذلك– فما بالكم بالأجيال العاجزة ذهنيا التي أنتجتها المدرسة الجزائرية من أصحاب التعليم المحدود ؟.

-3 عندما يترعرع المرء وسط مجتمع له أسس عقائدية صلبة جدا, أثرت عليها الأزمات و التناقضات المختلفة و المتتالية على مدار عقود, إلى درجة أن الأمور الدينية تختلط بالأمور الدنيوية بشكل التباسي, فإن الفرد يقع ضحية هذا الالتباس إلى درجة أن هذا الالتباس يصبح عقلية أو نمط تفكير مُورَّث قائم بذاته, و في الغالب تجعل هذه الذهنية أو هذا النمط المرء غير قادر على فرز نفسه بين أمرين مختلفين على شاكلة ما هو قدر من عند الله و ما هو مسئولية شخصية يتحملها العبد. و يتضح ذلك في أمور القضاء و القدر, التي جعلت حتى أكبر المسئولين في الدولة يلجئون في أوقات الكوارث إلى الاحتماء بمقولة: قدر الله و ما شاء فعل. بدل أن يواجهوا مسئولياتهم و يتحملون بكل موضوعية التبعات المنجرة عن تلك الكوارث, و هذه " الثقافة " صارت من بين أعمق الأسباب المشكلة للتهرب من المسؤوليات, و التهرب " اللاشعوري " من تأنيب الضمير لدى الجزائريين.

أية صفات و سمات عامة يمكن استخلاصها من النتائج المذكورة سابقا عن البيئة الفكرية و النفسية للجزائريين – أو غالبيتهم –  و كيف نربطها بانعدام ثقافة التخطيط الجاد لأمور حياتهم ؟.

الظاهر هو أنه صار لنا إنسان جزائري – و بعد كل ما ذكر أعلاه – تطغى عليه الكثير من العيوب و النقائص ( المعرفية و النفسية و السلوكية ) التي تعشش في عقله اللاواعي قبل الواعي, فلو طرحنا عليه سؤال حول عدم اتخاذه لثقافة التخطيط الاستراتيجي لأمور حياته نهجا يسير عليه, ستظهر لنا العديد من ردات الفعل التي تثبت أن الإشكال أعمق من مواجهته بطرق سطحية, و التي تبرز خلفها – أي ردات الفعل – كل تلك التراكمات القديمة و هي تعبر عن نفسها بشكل عنيف, لا يستشعره و لا يسمع صداه سوى الدارس أو الملاحظ المحنك في أعماق هذا الفرد المُنهك في الصميم, و أهم ردات الفعل المحتملة قد تبرز في الإجابات التالية على السؤال المطروح أعلاه:

- 1 هل أتعب نفسي في التخطيط و التدبير و إتباع كل تلك الخطوات – خطوات التخطيط الاستراتيجي – من أجل أمر أستطيع تحقيقه بدون كل ذلك ؟. ( الاستهزاء و الاستكانة فيما يخص أمور أو أهداف الحياة, فهذا قد يدل على طبع الجزائري غير الجاد و المستهين بما يُمكن أن تقدمه الأفكار الجادة, و ذلك قد يرجع أساسا إلى التثبيط الاجتماعي الذي مورس عليه في مراحل متقدمة من عمره ).

- 2 لدي هدف لكنني لا أعرف كيف أضع خطة إستراتيجية لبلوغه, ثم لست معتادا أصلا على تحقيق أهدافي بهذه الطريقة. ( هذا قد يدل على النمط الفكري و السلوكي العام الذي تربى عليه الفرد, و المتمثل في عادة قبيحة جدا تغلغلت في أذهاننا, و هي: الخمول الذهني و انتظار الآخر أن يقدم على شيء من أجل تقليده أو تثبيطه, و ذلك راجع إلى عيوب الأسرة و المدرسة ).

  - 3 من سيضمن لي أني سوف أعيش إلى اليوم الذي سأختم فيه تنفيذ هذه الخطة و أصل إلى الغاية ؟, فالأعمار بيد الله, و إن قدر لي أني سأحقق تلك الغاية فسأحققها بدون هذه الخطة المكتوبة على ورق. ( وهنا يظهر لنا الاضطراب المعرفي الذي يعاني منه البعض, بين حقيقة التوكل و التواكل, و هنا يحضرني سؤال لطالما طرحه الدكتور إبراهيم الفقي على هذا النوع من الناس: ماذا ستخسر أو ماذا سيضرك إن خططت بكل جد لتحقيق غاياتك ؟. و نضيف عليه: ثم ماذا لو أن الله قد كتب لك أن تعيش أكثر من مائة سنة ؟, ألن يعني ذلك أنك ستعيش قرنا كله تواكل و استكانة و كسل و تلاطم ؟ ).

  -4 إن طبيعة هذا المجتمع و مناخ هذا البلد لا يمكِّنا المرء من تحقيق أهدافه حتى لو استعان بأدهى خطة إستراتيجية. ( و هذه قد تكون إجابة أغلبية الناس و خاصة الشباب, و قد تدل على حالة الانهيار و الاستسلام التام للظروف الراهنة, يُضاف عليها ما أعتبره شخصيا من بين أسوء العيوب في الإنسان الجزائري المعاصر و هي: الندب و العويل على الواقع بدل " الاستمرار" في البحث عن الحلول لهذا الواقع, و هذا النوع من الناس هم الأحوج على الإطلاق لثقافة الأهداف و التخطيط, لأن عويلهم ذاك هو الذي يحمل بداخله كل أصناف بذور الأمراض النفسية و العقلية الخطيرة, التي نتجت عنها كل أنواع الانحراف السلوكي الذي أدى إلى كل ما عاشه البلد في العقدين الأخيرين....).

من خلال كل ما تقدم, حاولنا أن نضع فكر القارئ في صورة تقريبية تمكن من فهم أعمق للكسل الفكري الذي يعيشه الجزائريون دون أن يعوا غالبا بأنهم يعيشون تحت وطأته, و ذلك راجع إلى هذه النمطية التي تسيطر على المجتمع, و من بين تفرعات تلك النمطية الموضوع المعالج في هذا المقال, و هو ظاهرة افتقادنا للتخطيط الاستراتيجي في حياتنا, بدواع مختلفة لعل أهمها – بالنسبة للذين ليدهم أهداف واضحة يرغبون في تحقيقها بجد – أن الهدف يستحق إرادة مشتعلة لتحقيقه أكثر من خطة إستراتيجية مكتوبة على ورق..., و الحقيقة هي أن الهدف في حالة افتقاده لخطة واضحة و موضوعة بعناية – و مع مرور الوقت و تتالي عقبات الحياة الحتمية – سيضيع و يتبدد و يفقد صاحبه الرغبة إلى أن يستسلم أو يغير وجهته.

لكننا نخلص إلى أمر واحد يجعلنا نتفهم افتقاد الجزائريين لهذه الثقافة, و هو أنها غير موجودة أصلا في قاموسهم الحياتي المتوارث للأسف الشديد, و من ثم هي غير موجودة في سلوكهم و أسلوبهم الحياتي ككل, و ذلك راجع إلى ظروف تاريخية قد تبدأ منذ سنة 1830 إلى غاية هذا اليوم. و إذا أردنا استنتاج قريب من واقعنا الحالي, فيمكن القول أن التنشئة الاجتماعية منذ الطفولة, في الأسرة و المدرسة و المجتمع ككل, إضافة إلى الظروف السياسية و الفكرية و الثقافية العامة التي يعيش فيها البلد منذ 1962 قد كرّست هذه النمطية السلبية التي جاءتنا بهذا الفقر و العجز عن التخطيط لحياتنا كأفراد و كأسر.

 لا غرابة إذن أن نرى الشباب الجزائري ضائع بين أهداف مستحيلة المنال و رغبات بعيدة الإشباع, لأنه عاجز عن تحديد واقعه بموضوعية و أفقه بروية و العمل بمثابرة و صبر من أجل نيل ما يريد. و ليس من الغريب أن نجد الشباب الجامعي نادم على اختيار تخصصات تتناقض و قدراته أو استعداداته أو طموحاته, أطفأت دافعيته أمام ثقل المقررات و تحديات الدراسة و عيوب المنظومة..., و نرى نصف هؤلاء الطلبة مِمّن أجبروا على دراسة تخصصات لا يرغبون فيها, يستمرّون في الشكوى و اللوم و الاستسلام و السير نحو المجهول بدل محاولة التأقلم مع البحث عن حلول أنسب. و لا غرابة أن نصادف يوميا أشخاص و أرباب أسر غارقين في ورطة الديون و التسليف لأنهم لم يُحسنوا تقدير حسابات الحياة و تسيير مواردهم المالية أمام واقع البلاد الصعب. و لا غرابة أن نرى البلد برمته غارق في فوضى التسيير, مسؤول يبني و الآخر يهدم ليعيد البناء و هكذا دواليك....

و بعد كل هذا, ألا يجدر بنا أن نفكر في الأجيال الصغيرة التي ستحمل كل هذا الإرث العقلي و النفسي الثقيل و " الرهيب " ؟, لذلك لا بد لنا من التركيز على بعض الأمور من أجل إكساب الجزائريين الصغار المؤهلات المبدئية التي تزرع فيهم ثقافة التخطيط, لعل البيداغوجيين سيهتدون إلى خلق مادّة التفكير و التخطيط التي ستُدرّس في المراحل الابتدائية يوما ما ؟, لكن و إلى ذلكم الحين لا بأس من الإشارة إلى بعض الأفكار التي قد تنفع البعض في حياتهم:

- 1 لا بد أن يتعلم الأولياء إشراك أبنائهم في الحوار حول القضايا التي تهم الأسرة, مع تشجيعهم على إبداء آرائهم و التعبير عن مواقفهم و عدم السخرية أو الاستهانة بها مهما بدت قاصرة أو ساذجة, لأن هذا السلوك و رغم رمزيته التي لا تكلف شيئا, فإن نتائجه على الطفل ستكون عظيمة, لأن مجرد أن يجمع الأولياء أبناءهم حول طاولة مستديرة وُضعت فوقها فواتير الكهرباء و الغاز و الماء, يناقشون فيها الكيفيات التي سينفق بها الراتب العائلي.... فكل ذلك من شأنه أن يجعل الطفل يلمس عن قرب الواقع الاجتماعي الذي يعيشه, فيجعله يشعر بالمسؤولية تجاه مصاريف الأسرة, فيقلل من طلب الكماليات و التبذير..., و ذلك يؤهله ليكون مسئولا عن حياته مستقبلا و مدركا لحاجاته و كيفية تحقيقها و تسييرها...

- 2 لا بد على المعلم الجزائري فرض نوع من التنظيم داخل غرفة الصف, فإلا جانب انتخاب رئيس الصف و نائبه, يمكن تخصيص ساعة أسبوعيا يجتمع فيها الجميع مع المعلم, من أجل التخطيط لبعض الأمور أو النشاطات التي يتحفز لها التلاميذ و التي تسجل في أجندة القسم, بحيث يتفق الكل على كيفيات تنفيذها و آجال تحقيقها..., ناهيكم عن اجتماعات تناقش فيها تحديات الصف ككل أو مشكلات بعض أعضائه خاصة في الجانب الدراسي و كيفية معالجتها..., و هذا يشترط بعض الأمور, كأن تكون علاقة المعلم بتلامذته علاقة صداقة قبل أي شيء, و أن يكون ماهرا في الحفاظ على حماسة الأطفال و شغفهم بما يقومون, فكل ذلك يساهم في الارتقاء بثقافة التخطيط الفردي و الجماعي لدى الفرد و يدربه عليها, إلى جانب إدماجه في حركية الجماعة أو المجتمع الصغير الذي ينتمي إليه في سن مبكرة....

- 3 لا بد على الفاعلين الاجتماعيين بمختلف مستوياتهم و تخصصاتهم أن يعملوا على إيقاظ المجتمع من سباته الذهني, و أن يقنعوه أنه لطالما كان ضحية هذه النمطية – التلقائية أو ربما المُفتعلة (؟) – و أنه غالبا لم يشعر بها رغم وجودها القوي بسبب المشاكل و المشاغل, و سيطرتها شبه الكاملة على أفكاره و سلوكه. بحيث يتم إقناع الحد الأكبر من الناس بأن عيوب التربية و التوارث الاجتماعي للأفكار السلبية و التنميط السلوكي الخاطئ و عيوب المنظومات الاجتماعية و الثقافية و السياسية, هي من أوجدت هذا الأسلوب الحياتي القاصر الذي يصوغ في نهاية المطاف ما يُعرف " بالمجتمعات المتخلّفة ", و هو الأسلوب الذي يفتقد للكثير من الذهنيات العصرية التي لا بد على الإنسان تبنيها, لأن ذلك من شأنه وضع حد لعشرات أو مئات المشاكل التي يواجهها الإنسان, بمجرد أن يُدرك و يُسلّم بأنه ضحية تلك النمطية السلبية, و يقرر أنه سيبذل جهودا من أجل تحسين نفسه على جميع الأصعدة, كمواطن و كزوج و كأب و كمعلم و كمربي....

يمكننا القول في الختام أن المرء الذي يطمح إلى غاية ما, لكنه لا يملك خطة مرسومة من أجل تحقيق تلك الغاية, كمن يريد الذهاب إلى مكان ما لكنه لا يملك خارطة للطريق الذي سيسلكه. قد يعتمد على الحدس و الحظ في بلوغ هدفه و قد ينجح, لكن بعد أن يكون قد مر بالكثير من الطرق الخاطئة و المغلوطة التي تضاعف من عثراته و سقطاته و تأخذ منه ضعف الجهد و الوقت.

و المشكلة فينا كجزائريين أننا نضجُّ منذ عقود مشتكين كثرة العراقيل التي تملأ حياتنا و تمنعنا من تحقيق ما نريد, ناسين أن طبيعة الحياة هي العراقيل و التحديات, و حالنا هكذا كذاك الذي يشتكي مستسلما تحت هطول المطر بدل أن يبحث له عن مظلة. و  أعود إلى مقولة السيد وامرسن أعلاه, بأن العالم يُفسح الطريق للمرء الذي يعرف إلى أين هو ذاهب, فقوله: العالم, يعني الحياة بكل ما فيها من تحديات و مشاكل و عقبات, و قوله: يفسح الطريق للمرء الذي يعرف إلى أين هو ذاهب. فقد ورد بصيغة المضارع, و يعني أن المرء مادام يدرك جيدا الطريق الذي يسلكه نحو هدفه و يدرك كل ما يوجد في هذا الطريق,  فإن الحياة و مع كل تحدياتها, لا تملك إلا أن تفسح له المجال لبلوغ غايته في النهاية, فمن لا يعرف طريقه في الحياة فإن أولى أولويات حياته أن يرسمه, أو كما قال المفكر "هايبل" ذات مرة: " إن لم أجد الطريق لصنعت الطريق. "

 علاوه أمير فنور – قسم علم النفس, جامعة البليدة – 21/11/2008

Partager cet article
Repost0

Présentation

  • : Le blog de Amir Fennour
  • : هذه المدونة تحوي مقالات في شتى الميادين التي يهتم بها المدون, من مقالات في العلوم الاجتماعية و التراث الجزائري إلى بعض القصص القصيرة و النصوص النثرية. هي مقالات و نصوص سبق و تم نشرها في مواقع أخرى, لكن الكاتب أعاد جمعها في هذه المدونة إضافة إلى مقالات و نصوص لم تُنشر من قبل
  • Contact

Recherche

Pages

Liens